كتاب: بولندا وألمانيا وقوة الدولة في أوروبا ما بعد الحرب الباردة: حالة عدم التكافؤ، لستيفان شفيد[أ]
المقدمة
ترجمها عن الانگليزية: د. محمد فوزي علي، كلية الآداب – جامعة عين شمس
الاختصارات
CSCEمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (Conference on Security and Cooperation in Europe)[ب]
CFSPالسياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي (Common Foreign and Security Policy)[ج]
CSDPالسياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي (Common Security and Defence Policy of the EU)[د]
ECالمجموعات الأوروبية (European Community)[ه]
ESDPالسياسة الأوروبية للأمن والدفاع (European Security and Defence Policy)[و]
IGCمؤتمر حكومات الاتحاد الأوروبي (Intergovernmental Conference)[ز]
NACCمجلس تعاون شمال الأطلسي (North Atlantic Cooperation Council)
NACمجلس شمال الأطلسي (North Atlantic Council)[ح]
NMDالدرع الصاروخي الأمريكي (National Missile Defence)[ط]
NRFقوة التدخل السريع التابعة للناتو (NATO Response Force)[ي]
OSCEمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (Organization for Security and Cooperation in Europe)[ك]
WEUاتحاد أوروبا الغربية (Western European Union)[ل]
المقدمة
يبرز استقرار العلاقات البولندية – الألمانية كقصة نجاح رائعة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. فبعد انهيار الهيمنة السوفيتية في شرق أوروبا الوسطى، تحرك الخصمان التاريخيان لتسوية خلافاتهما الثنائية وتطوير المزيد من العلاقات التعاونية ضمن الإطار متعدد الأطراف لمجتمع الأمن الأوروبي – الأطلسي. وخلال التسعينيات، أدى التقارب غير المسبوق بين أولوياتهما الاستراتيجية فيما يتعلق برؤية توسيع المؤسسات الرئيسة لمجتمع الأمن الأوروبي – الأطلسي، الناتو والاتحاد الأوروبي، بالعديد من المحللين السياسيين والمختصين إلى متابعة كشيشتوف سكوبيشفسكي أول وزير خارجية بولندي في حقبة ما بعد الشيوعية في وصف العلاقة بـ “توافق المصالح” ليس فقط تقريرًا للواقع، ولكن أيضًا تعبيرًا عن توقع أن شراكة “أوروبية” خاصة كانت في طور التكوين.[1]
وبدلاً أن يكون بمثابة نموذج لتكامل أوثق في أوروبا “غير المنقسمة” فيما بعد الحرب الباردة، بدأ “توافق المصالح” البولندي – الألماني يُظهِر أداءً ضعيفًا ما إن دخلت بولندا حلف الناتو وبدأت في التفاوض بشأن شروط انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وسرعان ما أصبحت العلاقات بين الجارتين تتسم بشكل متزايد بالتنافر بدلاً من التقارب في الكثير من جوانب أجندة السياسة الخارجية والأمنية للجماعة الأوروبية – الأطلسية. وبحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غالبًا ما كانت العلاقة توصف بأنها “مجال صراع” أو “مجال مصالح متضاربة”.[2] ونظرًا للانهيار الفعلي اللاحق في الحوار الثنائي بينهما، فقد أثار بعض المراقبين شكوكًا حول ما إذا كان يمكن وصف الطرفين كشريكين على الإطلاق.[3] وقد تحسن المشهد قرب نهاية العقد الثاني ما بعد الحرب الباردة – فقط ليشهد هبوطًا حادًّا آخر في منتصف العام 2010 – ولكن على الرغم من التحوّل في مستويات الإرادة السياسية باتجاه التعاون، فإن سجل تفاعل الدولتين في مجال السياسات العليا منذ أواخر التسعينيات يشير إلى وجود نمط متصلب بشكل مستغرب من التنافر.[4]
وبعيدًا عن خيبة أمل العديد من المتحمسين الذين كانوا يأملون أن تكون العلاقة البولندية – الألمانية في فترة ما بعد الحرب الباردة بمثابة “محور” مهم للجماعة الأوسع والأكثر تنوعًا – أي أنها كان لها أن تلعب دورًا مشابهًا لدور “المحرك” الفرنسي – الألماني في أوروبا ما بعد الحرب – فإن المسار المتذبذب للتقارب والتكامل من ناحية، والخلافات المتصاعدة والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حد الصراع الحاد من ناحية أخرى، تحدى بعض التوقعات الأكثر تفاؤلاً التي قدمتها الكثير من “المنتديات الأمنية” والأدبيات المستوحاة من “الأوربة” (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) التي كان سائدة خلال التسعينيات.[5] ولم تتمكن المحاولات اللاحقة لاستكشاف “الثقافة الاستراتيجية” أو “مفاهيم الدور القومي” التي تشكلت عبر الخبرة التاريخية للدولتين من أجل شرح الخلافات التي نشأت في علاقاتهما منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من النجاح في تفسير الطبيعة المراوغة ولكن الثابتة للخلاف حول قضايا السياسات الرئيسة الذي كان يتطور زمنيًّا، وفي ظل وجود تشكيلة سياسية داخلية متنوعة في كلا البلدين.
يقدم هذا الكتاب تفسيرًا بديلاً للصدامات البولندية – الألمانية على صعيد السياسة الخارجية والأمنية، والتي حدثت خلال العقد الذي شهد “تداخل وتضمين” هذه العلاقة الثنائية في الإطار متعدد الأطراف لمجتمع الأمن الأوروبي – الأطلسي.من خلال فحص تجريبي لأربع قضايا سياسية رئيسة، هي الخرائط الاستقصائية[م] وﻣﻘﺎﻳﻴﺲ النطاق[ن] ونوعية المصالح، وتباين وتنافر السياسات بين وارسو وبرلين منذ أواخر التسعينيات حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن بدلاً من حذو حذو الأدبيات السائدة والتركيز على أهمية دور الهويات والأفكار القومية، فإنه يصب اهتمامه على دور اﻟﺒﻨﻴﺔ في تكييف الخلافات بين البلدين. ومن خلال النظر إلى القوة والتفاوتات الجيوسياسية التي تم تعريفها على أنها محددات تاريخية رئيسة لصراعاتهم الماضية، فإنه يتحرى أهمية هذه المتغيرات في ظل الظروف المتغيرة. وعلى نفس المنوال، فإنه يكشف أيضًا عن أشكال جديدة من التفاوت التي تنبع من المستويات غير المتكافئة لـ “حظ” كل منها في مؤسسات الجماعة – وهي نفس المؤسسات التي توقعت التفسيرات التقليدية للمفارقة أن تطامن من دور عوامل القوة، وأن تضفي الطابع الديمقراطي على العلاقات بين الأعضاء، وبالتالي تحدّ من احتمالية نشوب صراع داخل الجماعة أو تقلل حدته بمرور الوقت. ويجيب التحليل على السؤال حول: ماهية العوامل التي تفسر على أفضل وجه الخلاف البولندي – الألماني في مجال السياسات العليا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟
والحجة الرئيسة المقدمة هنا هي أن التفاوتات الهيكلية تستمر في تشكيل العلاقة بين بولندا وألمانيا كأعضاء في المؤسسات المشتركة، حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وإن كان ذلك بطرق مختلفة بشكل ملحوظ وأقل وضوحًا مما كان عليه الأمر في الماضي. وعلى عكس الافتراض الشائع، فإن القوة والبنية لا يخبران فقط عن قدرات كلتا الدولتين على الغلبة في مواقف التفاوض، ولكن الأهم من ذلك، أنهما يحددان أيضًا خياراتهما السياسية وينظمان أولوياتهما داخل النظامين. وهذا لا يعني إنكار إرث هوياتهما أو أفكارهما القومية التي تطورت عبر الخبرة التاريخية، أو أهميتها المستمرة في ظل حالة السلام المستقر.[س] بل هو بالأحرى افتراض أن كلا منهما يتحمل أثمانًا ويحوز فرصًا متباينة، داخل الحلف الأطلسي والمشروع الأوروبي، كدالة على مركزيهما البنيويين غير المتكافئين داخل النظامين. وبعبارة أخرى، فعلى الرغم من أن الهويات والأفكار التي تصبغ رؤية نخبهم للعالم مهمة بلا شك، فإن القوة والبنية توفران السياق الذي يموضع فيه صانعو السياسات في وارسو وبرلين مصالح دولتيهما، ويختارون الوسائل للعمل على تحقيق هذه المصالح، وأخيرًا، يتنافسون للتأثير على إملاء المآلات.
وتوضح الحالة البولندية – الألمانية أنه بدلاً من أن تصبح أعمال القوة والمتغيرات البنيوية الأخرى، شيئًا فشيئًا أمرًا غير ذي بال أو أن يتم ‘التخفف من آثارها’، فقد أصبحت ذات طابع أكثر حذقًا ودهاء داخل المنظومة، حيث القواعد والمعايير، و ‘الأوضاع’ والممارسات، تقوم على المعاملة بالمثل، وكما يخبرنا بعض البنيويين، فإن الأشكال حديثة التكوين والنشأة للهوية المشتركة تعمل على إخفاء أهميتها. ولكن نظرًا لأن القوة والعوامل البنيوية الأخرى تصبح أكثر خفاء، فإنها تصبح أيضًا أشد خطورة – مما يزيد بالمقابل من أهمية التعرف عليها على نطاق أوسع. وخلافًا للتوقعات، فإنه بدلاً من أن تتسامى فوق معطيات القوة، فإن المؤسسات الأوروبية – الأطلسية غالبًا ما تقوم “باستنبات” وحتى “ترسيخ” الاختلالات البنيوية بين أعضائها، مما يجعل دورها يعسر إدراكه بسهولة ومن ثم يصعب التنافس عليها. ونظرًا لقوتها الاقتصادية والديموغرافية، ومركزها ومكانتها كعضو مؤسس، فإن التفاوتات توصِّف بشكل مبتذل علاقات ألمانيا مع جميع جيرانها المباشرين والأبعد في الناتو وداخل المشروع الأوروبي. فيما حددت علاقتها مع العضو المتنامي في الجماعة، وإن كان أضعف بكثير نسبيًا والأحدث عهدًا الذي يعاني من التهميش ألا وهو بولندا.
جيران صعاب المراس: لمحة تاريخية موجزة
نظرًا لإرث الجوار المضطرب على مدى ألف عام والسجل العنيف بشكل خاص خلال المائتي عام الماضية، كثيرًا ما يتم التعاطي مع العلاقات بين البولنديين والألمان على أنها مرادفة لماضي أوروبا المولع بتدمير الذات. وفي ضوء الهشاشة الجيوستراتيجية الواضحة تاريخيًا للمنطقة الواقعة بين ألمانيا وروسيا بحدودهما الحالية، تبرز العلاقة البولندية – الألمانية كواحدة من أربعة مصادر رئيسة للصراع والحرب في أوروبا الحديثة.[6] ولم تمر بولندا وألمانيا بالظروف التي جعلت السلام المستقر ممكنًا إلا بعد نهاية الحرب الباردة. وربما لن يكون من المبالغة القول إن القليل من البلدان الأوروبية المتجاورة الأخرى مثقلة بالكراهية وممارسات العنف مثل هذين البلدين المتجاورين في قلب القارة.[7]
ومنذ العام 1989، تحسنت العلاقات بين هذين القِرْنَيْن المتخاصمين في السابق بشكل ملحوظ، مما دفع بعض المراقبين إلى استنتاج أن التنافس القديم قد أفسح المجال للتعاون في عملية لا تختلف عن ممارسة بناء التوافق الفرنسي – الألماني في أوروبا ما بعد الحرب.[8] وكانت المؤشرات عديدة على حدوث نقلة نوعية. فقد جاء أولاً اعتراف النخب الألمانية المتأخر بأن السعي إلى الحرية البولندية والوحدة الألمانية – أو “حل سؤاليْ القرن في أوروبا” كما وصفهما هاينريش وينكلر[ع] – هما وجهان لعملة واحدة.[9] وقد مضت الدولتان نحو إبرام معاهدة حدودية نحَّت المحدد البنيوي الرئيس لنزاعهما الثنائي بعد الحرب.[10] وتبع ذلك توقيع معاهدة صداقة أنهت عدة فصول مؤلمة ودفعت علاقتهما باتجاه بناء مستقبل أوروبي مشترك: فقد ضُمِّن دعم ألمانيا لطموح بولندا في الانضمام في نهاية المطاف إلى الاتحاد الأوروبي بشكل صريح في الوثيقة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، تم استكمال إطار المعاهدة الثنائية باتفاقية بشأن التعاون الدفاعي والعسكري شكلت تقدمًا مهمًّا – وهي أول اتفاقية توقّعها بولندا مع دولة عضو في الناتو. وفي وقت لاحق، كان الساسة الألمان هم من قادوا بنجاح عملية وضع قضية توسّع حلف الناتو صوب الشرق على أجندة المنظمة فيما بعد الحرب الباردة.[11] كان هذا الالتقاء بينهما في الأهداف الاستراتيجية حول توسيع مؤسسات المجتمع الأوروبي – الأطلسي هو الذي دفع وزير الخارجية البولندي كشيشتوف سكوبيشفسكي إلى افتراض ولادة وضعية من “توافق المصالح” بين البلدين – وهو شعار لا يهدف إلى تفسير الحالة الراهنة فحسب، ولكن أيضًا إلى دفع العلاقة بينهما باتجاه بناء مستقبل مشترك.[12]
رافق الانتقال من الصراع “المجمد” نحو التعاون جهود لتحقيق المصالحة بين الشعبين، تأسيسًا على عملية بدأها الأساقفة البولنديون بالفعل في منتصف الستينيات.[13] وربما كانت الميزة الأكثر لفتًا للانتباه في التقارب البولندي – الألماني هي أنه في الخطاب السياسي في البلدين، غالبًا ما تم تأطير هذا المشروع الثنائي الناشئ على أنه غاية في حد ذاته. وتماشيًا مع شعار “توافق المصالح”، أناط الساسة وصناع القرار في كلا البلدين بالعلاقة الخاصة الناشئة بين بولندا وألمانيا النهوض بدور مركزي في المهمة الأكبر المتمثلة في إعادة دمج شطري أوروبا. وكما قال رولاند فرودنشتاين، مدير مكتب مؤسسة كونراد أديناور في وارسو آنذاك:
في حين أن مستقبل أوروبا قد لا يتوقف على هذه العلاقة وحدها، فمن المؤكد أولاً أن الطريقة التي تسير بها الأمور بين هذين البلدين وثيقة الصلة بكل شيء آخر يحدث في أوروبا في العقود المقبلة؛ وثانيًا، أن هذه العلاقة تنتظم العديد من المشكلات في العلاقة بين شطري أوروبا الشرقي والغربي والتي تواجهها أوروبا ككل.[14]
وعلى الرغم من أن الانعطاف الحاسم نحو التعاون لم يَحُلْ دون بروز خلافات حول المصالح القريبة العاجلة والخيارات السياساتية، فإن نموذج التحول في نوعية العلاقات بين بولندا وألمانيا الذي حدث خلال أقل من نصف عقد منذ زوال الهيمنة السوفيتية على شرق أوروبا الوسطى كان باهرًا واستثنائيًّا بكل ما تعنيه الكلمة.
وبالنظر إلى البدايات المتفائلة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فقد كان من المفاجئ أنه بدءًا من النصف الثاني من التسعينيات، شهدت العلاقات بين الفاعليْن بعض الأوقات العصيبة على نحو غير متوقع. فمن ناحية، ازدهر التبادل الاقتصادي والتعاون السياسي. وفي العام 1995، حلت بولندا محل روسيا لأول مرة كأهم شريك تجاري لألمانيا في الشرق. وفي العام 1997، عقدت الحكومتان أول مشاورات حكومية مشتركة رفيعة المستوى في بون – وتجري ألمانيا هذا النوع من المشاورات مع الشركاء المقربين للجمهورية الاتحادية. وفي نفس العام، اتخذ مجلس شمال الأطلسي (NAC) في قمة مدريد في يوليو قرارًا بدعوة بولندا لبدء مفاوضات الانضمام إلى الناتو، وفي ديسمبر، تعهد الاتحاد الأوروبي بفتح باب مفاوضات الانضمام مع الدفعة الأولى من الدول المرشحة للعضوية (والتي ضمت ست دول منها بولندا)، أو ما أُطلِق عليه مجموعة لوكسمبورغ (نسبة إلى مكان عقد القمة). وبدا المستقبل أكثر إشراقًا للقِرْنَيْن البولندي والألماني ربما أكثر من أي مرحلة أخرى سابقة في التاريخ. بيد أنه كان هناك ثمة خلل.
أولاً، تعرضت عملية المصالحة القومية لانتكاسة، عندما عاود الماضي الظهور على السطح من جديد، منهياً حقبة جيل من السياسيين في كلا البلدين، كانوا على ما يبدو، يتبارون فيما بينهم على إرسال اللفتات التصالحية عبر نهر الأودر.[15] وقد طفت التوترات على السطح في وقت مبكر من العام 1995، عندما جرى حذف اسم الرئيس البولندي ليخ فاونسامن قائمة المدعوين إلى احتفالات الذكرى الخمسين لنهاية الحرب العالمية الثانية (المقامة في برلين). كما اندلع صراع أكثر حدة في منتصف العام 1998، عندما أصدر البوندستاغ الألماني قرارًا رحب فيه بتوسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق كفرصة لمعالجة “المسائل التي ما زالت مطروحة” والناجمة عن فرار وطرد أصحاب الأصول الألمانية من بولندا فيما بعد الحرب بعد التغييرات الحدودية بوصاية من الحلفاء في مؤتمر بوتسدام 1945. وقد تكررت لاحقًا الخلافات حول التفسيرات التاريخية وإحياء الذكرى بشكل متقطع. وشملت الخلافات المسائل المتعلقة بتأسيس مركز مثير للجدل في برلين لإدانة عمليات الطرد القسري والفرار (التي تعرض لها الألمان في أجزاء من وسط وشرق أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية) برعاية اتحاد المُهجَّرين (BdV) المعروف تاريخيًّا بميوله الرجعية؛ واستعادة الكنوز الثقافية التي فُقدت أو تم نقلها إلى خارج ألمانيا أثناء الحرب؛ ومطالبات الاسترداد المتبادلة الأخرى. وعلاوة على ذلك، فابتداءً من أواخر التسعينيات، بدأ الساسة ووسائل الإعلام في بولندا يشيرون إلى علامات على عملية تحريف تاريخي مزعوم يقوم بها الألمان وترويجهم لنسبوية أخلاقية مُدَّعاة خلطت الأدوار فوضعت الجاني في موضع الضحية.[16]
ثانيًا، كان لبدء مفاوضات انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي تأثير لم يخل من المفارقة على الحوار البولندي – الألماني. فمن ناحية، كان هذا يعني أن العلاقات بين البلدين أصبحت قائمة على العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف على نحو متزايد، وتشمل مجموعة واسعة من مجالات السياسة العامة. ومن ناحية أخرى، كشفت المحادثات عن عدد من المصالح المتضاربة في مجال السياسات الدنيا.[ف] وقد تضمنت العملية عددًا متزايدًا من الجهات الفاعلة التي كانت أقل وعيًا بالهدف الاستراتيجي للتوسيع، وبدلاً من ذلك ركزت على حماية مصالحها البيروقراطية الخاصة. كما أدى التحول “التكنوقراطي” إلى تسييس مفاجئ لانضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي.[17] ونظرًا لعدم التكافؤ السوسيواقتصادي بينهما، كان نطاق الخلافات في مجالات السياسات المختلفة واسعًا: سواء فيما يتعلق بميزانية الاتحاد الأوروبي أو الزراعة أو البيئة أو السياسات الاجتماعية أو الضرائب. وقد أثارت قضية شراء الأراضي من قبل الأجانب مخاوف من غزو المشترين الألمان للريف البولندي وساعدت في تغذية نشوء مُكوِّن متشكك تجاه الاتحاد الأوروبي في السياسة البولندية. واستجاب الساسة الألمان للمخاوف الذائعة بشكل متزايد عن هجمة للعمال المهاجرين من الشرق، ليس من خلال الاحتكام إلى العقل واللجوء إلى المنطق، بل بتقديم وعود انتخابية للحد من إحدى الحريات الأربع التي تشكِّل مكوِّنًا أساسيًّا للاتحاد الأوروبي[ص] بحق مواطني الدول الأعضاء الجدد.[18] وفي الوقت نفسه، عززت التغطية الإعلامية للخلافات المتزايدة حالة الاكتئاب المتصاعدة التي بدت الآن بعيدة جدًّا عن الخطاب الحماسي عن مستقبل أوروبي مشترك بشَّر به كبار الساسة في وقت سابق من هذا العقد.[19]
وأخيرًا، ربما كان الأمر الأكثر إثارة للحيرة، أن العلاقات بين البلدين بدت متوترة بشكل متزايد بسبب الخلافات في مجال السياسات العليا. وقد جاء ذلك بمثابة مفاجأة خاصة بالنظر إلى أن “توافق المصالح” الاستراتيجي كان بمثابة صيغة إرشادية للتقارب البولندي – الألماني منذ بداياته المبكرة، حتى قبل أن يعرب عنه سكوبيشفسكي في العام 1990. فطوال العقد الأول بعد الحرب الباردة، تشاطرت النخب السياسية في البلدين رؤية الفضاء الأوروبي – الأطلسي كوحدة غير قابلة للتجزئة على صعيد الشواغل الامنية.[20] وكان مستوى الدعم للتكامل الأوروبي مرتفعًا من كلا الشعبين على حد سواء، وعلى الرغم من قائمة طويلة من تضارب المصالح القطاعية، فقد تعهدت الحكومات المختلفة في وارسو وبون / برلين مرارًا وتكرارًا بالتعاون مع بعضها البعض كشركاء مستقبليين في الاتحاد الأوروبي.
وبشكل حاسم، فقد تعاطت ألمانيا ولأول مرة مع المنطقة المتاخمة لحدودها الشرقية كمنطقة ذات أولوية استراتيجية من الدرجة الأولى، ليس فقط من خلال دعم العملية الهادفة إلى دمج بلدان شرق وسط أوروبا في مؤسسات الجماعة، بل ومن خلال مناصرتها. وبعبارة أخرى، فقد أعطت برلين اندماج بولندا مع الغرب الأولوية على حساب علاقاتها مع روسيا. لقد حير المراقبين أنه بمجرد انضمام بولندا إلى حلف الناتو وتأكد عضويتها في الاتحاد الأوروبي بشكل أو بآخر، ظهر للعيان أن الجارتين ليستا شريكتين طبيعيتين في السعي لتحقيق أهداف مشتركة أو أن مصالحهما كانت متباينة، وعبر العديد من المجالات الرئيسة لأجندة السياسات العليا للجماعة – بما في ذلك دور الناتو وولايته الأوسع نطاقًا، والشكل المستقبلي للمشروع الأوروبي، وطبيعة العلاقات مع روسيا والجيران الشرقيين، بالإضافة إلى سياسة الطاقة الخارجية للاتحاد الأوروبي – بدت أهدافهم متناقضة تمامًا إلى حد ما.
وجاءت أول بادرة على وجود خلافات سياسية جوهرية بعد فترة وجيزة من الانتخابات الاتحادية (لانتخاب أعضاء البوندستاغ الرابع عشر) في العام 1998. فقبل اجتماع وزراء دفاع الناتو في ديسمبر، أثار وزير الخارجية الألماني الجديد يوشكا فيشر مسألة “الاستخدام الأول” للأسلحة النووية[ق] في المناقشات حول المفهوم الاستراتيجي الجديد الذي كان من المقرر كشف النقاب عنه في الذكرى الخمسين لتوقيع معاهدة واشنطن.[ر] وقد كانت مناورة يائسة لم تتمتع بأي دعم تقريبًا بين الحلفاء ووُجِهت بمعارضة شديدة من أعضاء الناتو النوويين. لكنها أثارت القلق في وارسو، الحساسة بشأن قدرة الردع لمعاهدة دفاعية كانت على وشك الانضمام إليها.[21] ثم في ربيع العام 1999، وعلى الرغم من دعم الحكومتين في نهاية المطاف للتدخل العسكري لحلف الناتو في أزمة كوسوفو، فقد كشفت المناقشات الداخلية عن وجود هوة مُسبَقة في الطريقة التي عالج بها الساسة في كلا البلدين قضية شرعية استخدام القوة، أو قدَّروا معايير التضامن مع أعضاء الحلف الآخرين.[22]
وسرعان ما ظهر أن الحكومتين قد استخلصتا أيضًا دروسًا متباينة من حرب كوسوفو فيما يتعلق بتقسيم العمل بين الحلفاء. فنظرًا لقلقها بشأن هيمنة واشنطن الساحقة داخل الحلف وإدراكها بنفس القدر للمخاطر المرتبطة بصعود الخطاب الانعزالي في الكابيتول هيل،[ش] أيدت برلين شكلاً من أشكال الدفاع والأمن الأوروبي المستقل. وبدورها حثت وارسو متشككة في القدرات العسكرية والإرادة السياسية للفعل لدى شركائها المستقبليين في الاتحاد الأوروبي، على استمرارية الدور الرئيس لحلف الناتو ودعت إلى تعاون أوثق عبر الأطلسي بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك. وقد تعززت هذه الخلافات عقب قمة المجلس الأوروبي[ت] في هلسنكي في ديسمبر 1999 التي التزمت فيها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتطوير السياسة الأوروبية للأمن والدفاع (ESDP) ووضع قائمة من الأهداف للمساعدة على تحقيق الاستعداد التعبوي. وبينما اضطلعت برلين بدور واضع الأجندة المتحمس في هذه العملية، فقد كرر الدبلوماسيون البولنديون مطالبهم الخاصة بتمثيل الدول الأعضاء في الناتو من خارج الاتحاد الأوروبي على طاولة صنع القرار الخاصة بالهيكل الجديد المقترح. وفي غضون ذلك، بشَّرت زيارة الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين إلى ألمانيا في يونيو 2000، بفترة من شراكة متنامية لبرلين مع موسكو – وهو تواطؤ في المصالح تضاعف بمرور الوقت بفضل الصداقة الوثيقة بين المستشار غيرهارد شرودر والزعيم الروسي، والتي تناقضت بشكل صارخ مع مشهد تدهور العلاقات بين بولندا وجارتها الشرقية الناهضة.
ومع مرور الوقت، تعمقت هذه الخلافاتوشملت نطاقًا متناميًا من مجالات السياسات. وأفضت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية ورد الفعل الأرعن للولايات المتحدة على التهديدات الأمنية الجديدة إلى حدوث توترات بين حلفائها الأوروبيين. لكن القِرْنَيْن البولندي –الألماني أثبتا أنهما ذويْ حساسية خاصة لمناخ التحول في المجتمع الأوروبي – الأطلسي. فقد أيد كلا البلدين حرب أمريكا في أفغانستان، ولكن الفجوة بين أولويات كل منهما وخياراتهما السياسية كانت تتسع بشكل لا لبس فيه في ضوء الانجراف الأحادي – القائم على الانفراد في اتخاذ القرار دون اعتبار كبير لمصالح أو وجهات نظر الحلفاء – لواشنطن على غير هدى. وكان هذا جليًّا للعيان في قمة الناتو في براغ في نوفمبر 2002. فبينما وقفت وارسو على استعداد لدعم تحرك إدارة بوش لإعادة تعريف استراتيجية الحلف ورحبت بحماس بقوة التدخل السريع الجديدة التابعة للناتو (NRF)، فقد رفضت برلين أي حديث عن تضمين خيار الضربة “الوقائية” في قائمة مهام الحلف وتعاملت مع قوة التدخل السريع التابعة للناتو ليس على أنها علامة على التلاحم عبر الأطلسي، بقدر ما هي دليل إضافي على قوة أمريكا المقلقة في سعيها للانفراد بالقرار.[23]
ووصلت العلاقات بين بولندا وألمانيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى الدرك الأسفل في أواخر العام 2002 وأوائل العام 2003، ففي عشية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ودون استشارة جارتها الغربية وشريكها المستقبلي في الاتحاد الأوروبي، انضمت وارسو إلى ائتلاف الدول التي دعمت غزو واشنطن للعراق، بينما اصطفت برلين بقوة مع مجموعة من الدول التي عارضت الحرب الأمريكية. وقد أصابت أزمة العراق المجتمع عبر الأطلسي بهزة في الصميم وأثارت التساؤلات حول مرونة التحالف عبر ضفتي الأطلسي وقدرته على تجاوز الصدع غير المسبوق.[24] وكانت التداعيات قاسية بشكل خاص على القِرْنَيْن البولندي – الألماني، حيث بدا كل جانب منزعجًا بنفس القدر من رؤية الأداء المتحدي للطرف الآخر: فقد صُدم الساسة البولنديون ووسائل الإعلام البولندية بمدى معارضة برلين للأمريكيين،[25] في حين بدا كثرٌ في المؤسسة السياسية الألمانية مندهشين من ذلك المشهد الصارخ لنكران الجميل من جانب المستفيد الرئيس الوشيك من مساهمات برلين في ميزانية الاتحاد الأوروبي.[26] وكما علق أحد المراقبين، فقد كان الديمقراطيون الاجتماعيون الألمان منزعجين بشكل خاص من الجرأة التي أظهرها ما بعد الشيوعيين في بولندا، الذين يدينون إلى حد معقول بإعادة تأهيلهم كأعضاء مقبولين في الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية لرعاية الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني.[27]
وكان الود مفقودًا بين وارسو وبرلين خلال العام 2003، وأنهت الحكومتان العام المروع الذي مرت به الجماعة الأوروبية بمعركة ختامية دقت المسمار على نحو يضرب به المثل في نعش المعاهدة الدستورية التي تبنّاها مؤتمر حكومات الاتحاد الأوروبي (IGC). فجنبًا إلى جنب مع فرنسا، دفعت الحكومة الألمانية بتصلب باقتراح لأن يكون التصويت بالأغلبية المزدوجة في مجلس الاتحاد الأوروبي،[ث] في حين رفضت وارسو قبول فقدان المركز المتميز الذي حصلت عليه في معاهدة نيس.[خ] ولاحقًا، كافح القِرْنان لإيجاد أرضية مشتركة أثناء صياغة بنود “تعزيز التعاون” في مجال السياسة الأوروبية للأمن والدفاع (ESDP)، ولمنح الاتحاد الأوروبي قدرة على التخطيط العسكري المستقل. وعلى الرغم من احتفال الحكومتين بانضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي في مايو 2004 بسلسلة من الاجتماعات الرمزية في وارسو، وعلى جسر عند نهر الأودر وعلى الحدود البولندية – الألمانية – التشيكية، إلا أن الصعوبات التي واجهتها الرئاسة الأيرلندية في التوسط للتوصل إلى اتفاق في مؤتمر حكومات الاتحاد الأوروبي (IGC) المنعقد آنئذ قد عكَّر صفو الأجواء الاحتفالية.
وفيما مثَّل حدثًا بعث على التفاؤل على غير العادة جاء التعاون الذي لم يستند إلى المصالح المتقاربة فحسب، بقدر ما تم التفاوض بشأنه بشكل ثنائي ثم تم إدراجه لاحقًا على أجندة آلية السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CFSP)، حيث نسق وزيرا خارجية البلدين لصياغة استجابة جماعية مشتركة تجاه حراك الثورة البرتقالية في أوكرانيا في شتاء 2004/2005. وأثمر تقسيم العمل، حيث استغل الرئيس البولندي علاقته الوثيقة بالقيادة الأوكرانية في حث كييف على التحلي بالحكمة بينما استخدم المستشار الألماني علاقته بالرئيس بوتين في التخفيف من حدة التوتر في موسكو، عن نتائج واعدة.[28] لكن هذا النمط من الديناميكية التعاونية لم يستمر. فبعد فترة وجيزة من الانتخابات الاتحادية الألمانية لعام 2005، ولكن قبل رحيل شرودر، أعلنت برلين وموسكو عن خطة مشتركة لبناء ممر للغاز الطبيعي عبر قاع بحر البلطيق، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تجاهل بولندا وجارتيها أوكرانيا وروسيا البيضاء، مما يفاقم من ضعف الدولتين أمام روسيا مُصدِّر الغاز الوحيد إليهما. ولم يكن ثمة حدث آخر في التاريخ القصير الذي جمعهما كعضوين في نفس الجماعة أدى إلى انتكاس التقارب البولندي – الألماني مثل مسألة التواطؤ الروسي – الألماني ضد جيرانهم في شرق أوروبا الوسطى.
شجع رحيل المستشار شرودر عن المسرح السياسي ووصول حكومة الائتلاف الكبير – الذي تشكَّل من ائتلاف حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي / الاتحاد الاجتماعي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي – إلى السلطة في برلين على التفاؤل بأن تتخذ العلاقات بين البلدين منحى أكثر تعاونًا.[29] وقد رحب البولنديون بتشكيل ائتلاف كبير باعتباره تطورًا إيجابيًّا، وأعربوا عن أملهم في أن المستشارة الجديدة أنغيلا ميركل، وهي من مواطني ألمانيا الشرقية قبل إعادة توحيد الألمانيتين ولها تاريخ في العمل في صفوف المعارضة المناهضة للشيوعية وربيبة محبوب البولنديين هيلموت كول، ستعيد ألمانيا إلى مسار أكثر التزامًا بالتعاون الأطلسي وستُطامِن من وتيرة شراكة برلين مع موسكو، فيما سيكبح الحزبُ الديمقراطي الاشتراكي يمينيَّ ائتلاف حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي / الاتحاد الاجتماعي المسيحي فيما يتعلق بنشاط لوبي المُهجَّرين الموصول.[30] وفي ظل الحكومة الجديدة، طرأ بالفعل على نسق السياسة الخارجية لألمانيا تغيّر ملحوظ. فقد توجهت ميركل إلى واشنطن في يناير 2006 للتأكيد مجددًا علىمتانة العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، وبعد ذلك بأسبوع جعلت من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية محورًا للنقاش خلال زيارة قامت بها للكرملين.[31] وحتى قبل توليها منصب المستشارية، استمالت البولنديين بتلميح مفاده أن “الطائرات التي تقل ساسة ألمان إلى موسكو ستحطّ في طريقها في وارسو” في المستقبل.[32] ولكن سرعان ما تبين أن التحول في جوهره كان أقل أهمية، خلافًا لهذا الخطاب. وقد أصبح هذا واضحًا بشكل كافٍ بالفعل في أبريل 2006 عندما توجهت ميركل (بدون توقف!) رفقة نصف أعضاء مجلس الوزراء الألماني والرؤساء التنفيذيين لأكبر 20 شركة في ألمانيا إلى حضور قمة روسية – ألمانية استثنائية استضافها الرئيس الروسي ونخبة من رجال الأعمال في البلاد في تومسك.[33]
وبعد أسبوع من الانتصار الصعب الذي حققه ائتلاف حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي / الاتحاد الاجتماعي المسيحي في ألمانيا، انتخب البولنديون أيضًا حكومة جديدة بقيادة حزب القانون والعدالة القومي المحافظ، الذي ترأسه منظر الاستراتيجيات السياسية صعب المراس ياروسلاف كاتشينسكي.[34] ثم في أكتوبر، تم انتخاب ليخ، شقيق ياروسلاف التوأم الأكثر اعتدالاً، رئيساً للبلاد. وقد بشَّر صعود حكومة ائتلافية بقيادة حزب القانون والعدالة والتي ضمت حزب “عصبة العائلات البولندية” الانعزالي المناهض للاتحاد الأوروبي وحزب “الدفاع الذاتي” (ساموبرونا) – وحريتها النسبية في العمل في ضوء حق الفيتو الرئاسي البغيض والترتيبات الدستورية التي تمنح رئيس الدولة نفوذًا كبيرًا في مجال الشئون الخارجية – بإجراء تعديلات جوهرية في السياسة الخارجية البولندية. وأصبح السياسيون عديمي الخبرة إلى حد كبير يتمتعون الآن بأغلبية هائلة في البرلمان البولندي، في حين أن الجيل السابق من النخبة السياسية في بولندا المستقلة بعد سقوط النظام الشيوعي لم يُدفَع به إلى الصفوف الخلفية فحسب، بل كثيرًا ما تم تشويهه والتشهير به بلا وازع من ضمير بتهمة الإهمال المزعوم لمصالح البلاد “الحقيقية” باسم المثالية الأوروبية مزدوجة المعايير.[35] ووعد حزب القانون والعدالة بتبني دبلوماسية لا تقبل الحلول الوسط بمكانٍ وتعهد بـ “إعادة بناء” مكانة بولندا الدولية. وتعهد قادته بتعزيز العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة والدفاع بقوة عن مصالح البلاد في الاتحاد الأوروبي.
ومع ولعه بنظريات المؤامرة وقدرته على استغلال المخاوف القومية لدى البولنديين تكتيكيًّا، بنى حزب القانون والعدالة قاعدة دعم سياسي تلعب بالورقة الألمانية، والتي لاقت رواجًا لدى الناخبين من الجيل القديم وأولئك الذين لم يحرزوا حظًّا وافرًا من النجاح خلال حقبة التحول التي مرت بها بولندا فيما بعد الشيوعية. وقد أدت الدبلوماسية العاصفة للتوأم كاتشينسكي إلى تدهور كبير في مستوى الاتصالات مع ألمانيا. وعلى الرغم من أن الرئيس قام بزيارة الجمهورية الاتحادية ما لا يقل عن ثلاث مرات خلال العام 2006، كما عقدت الحكومتان في أكتوبر الدورة الثامنة رفيعة المستوى للمشاورات البولندية – الألمانية في برلين، إلا أن مستوى التدهور في العلاقات كان لافتًا. وفي يونيو، ألغى كاتشينسكي مشاركته في قمة مجموعة “مثلث فايمار” بعد أن نشرت صحيفة تاغس تسايتونغ الألمانية اليومية رسمًا كاريكاتوريًّا يشبّه التوأم المشاكس في بولندا بـ “البطاطا الصغيرة”.[36] وقد توقف المبعوثان الخاصان لكل من القِرْنَيْن للعلاقات الثنائية عن التواصل شخصيًّا، وآثروا أعمدة الصحف بدلاً من ذلك.[37] وكان غياب المسئولين البولنديين عن العديد من المناسبات البولندية – الألمانية العامة بمثابة شهادة إضافية على حالة الحوار الفاترة بين وارسو وبرلين. وفي إشارة معبرة عن موقف الحكومة البولندية الازدرائي، فشل ياروسلاف كاتشينسكي – في أول بيان له أمام البرلمان البولندي بعد أن تولى منصب رئيس الوزراء في صيف العام 2006 – في تكريس جملة واحدة للعلاقات مع ألمانيا، شريك بولندا الرئيس اقتصاديًّا والحيوي سياسيًّا في الاتحاد الأوروبي.[38]
وقبل وقت قصير من انعقاد القمة الأوروبية في بروكسل في منتصف ديسمبر، وفي مواجهة الحظر الصارم الذي كانت تفرضه موسكو على اللحوم والمنتجات الزراعية البولندية، أعلنت بولندا أنها سترفض بدء المحادثات بشأن اتفاقية شراكة وتعاون جديدة مع روسيا.وكانت محاولة المستشارة ميركل “أوربة” مشكلة اللحوم البولندية بلا جدوى، ونجحت وارسو منفردةً في حرف أجندة السياسة الخارجية للرئاسة الألمانية للاتحاد الأوروبي عن مسارها. وخلال المحادثات الجديدة حول معاهدة الاتحاد الأوروبي الجديدة، قاد البولنديون مساومة صعبة دفاعًا عما يسمى طريقة بنروز أو طريقة الجذر التربيعي لوِزان الأصوات في مجلس الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنها أصبحت في عزلة متزايدة، إلا أن الحكومة البولندية أذعنت فقط بعد أن حصلت على تنازلات كبيرة واتفاق على تأخير تطبيق نظام التصويت الجديد. وليس بمستغرب، بالنظر إلى حجم الجهود التي بذلتها برلين لدفع المحادثات حول معاهدة الإصلاح، أن المحنة الدستورية الثانية قد وسعت الشقة بين العاصمتين.
وأدى فوز حزب المنصة المدنيةالليبرالي المحافظ في انتخابات أكتوبر 2007، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيس الوزراء المعتدل دونالد توسك إلى تحسن فرص تحقيق تقارب ألماني – بولندي مجدَّدًا. وقد بعث تعيين فلاديسلاف بارتوشفسكي[ذ] – أحد الناجين من أوشفيتز الذي كرس الجزء الأكبر من حياته للمصالحة بين الشعبين – في منصب وزير الدولة الجديد المسئول عن العلاقات مع ألمانيا على المزيد من التفاؤل. وبالفعل توجَّه وزير الخارجية الجديد راديك سيكورسكي إلى برلين في أوائل ديسمبر حيث عرض خلال اجتماع تمهيدي مع نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير “فتح صفحة جديدة” في العلاقات بين البلدين. وخلال لقائه بالمستشارة ميركل بعد أيام قليلة لاحقًا، أشار رئيس الوزراء توسك إلى استعداد بولندا لإجراء محادثات ثلاثية بشأن خط أنابيب الغاز نورد ستريم ‘التيار الشمالي’. وأوحت زيارة شتاينماير إلى ضيعة سيكورسكي الخاصة في شمال بولندا في أبريل 2008 بمزيد من التصميم على إحياء الشراكة البولندية – الألمانية – وهي خطوة أعقبتها محاولات جديدة لتنسيق السياسات تجاه أوكرانيا، بما في ذلك زيارة الرجلين المشتركة إلى كييف في منتصف العام 2009.
وأثبت مستوى الاستقرار المنخفض في العلاقة بين البلدين – الذي تلى ذلك – أنها متينة بما يكفي لتحمل الاستفزازات الجديدة من قبل لوبي المُهجَّرين قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي والانتخابات الاتحادية الألمانية لعام 2009.[39] لكن “التطبيع” لم يُذوِ القضايا العالقة. وعلى الرغم من أنها أصبحت فاعلاً أكثر تعاونًا على صعيد الاتحاد الأوروبي، إلا أن بولندا ظلت ملتزمة بشكل معلن بمواصلة توثيق العلاقات مع واشنطن، ومن بين أمور أخرى، استمرت في محاولاتها لاستضافة أجزاء من برنامج الدفاع الصاروخي المثير للجدل على نحو هدد بإضعاف الناتو وربما إثارة سباق تسلح جديد مع روسيا. وفي غضون ذلك، لم تخجل برلين من دعوة الأمريكيين للتخلي عن المشروع، حيث جادل العديد من الساسة البارزين بفجاجة بأن على واشنطن أن تصغي لوجهة نظر موسكو في هذا الشأن. وخلال زيارته لواشنطن في فبراير 2009، ناشد وزير الخارجية شتاينماير إدارة أوباما التخلي عن المواقع البولندية والتشيكية، وحث على إجراء محادثات مع الروس حول حظر الانتشار النووي بدلاً من ذلك.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتنسيق سياساتهما الشرقية، فقد طرحت وارسو وبرلين اقتراحين متعارضين لصياغة سياسة جوار أوروبية جديدة. وطلبت بولندا دعم السويد عندما تقدمت بمشروعها للشراكة الشرقية الرمزية في مايو 2008، بعد أن رفضته برلين. وعلى الرغم من أن كلاهما أدان التوغل الروسي في جورجيا في صيف العام 2008، إلا أن التقارب في خطابيهما كان يخفي خلافات أكثر عمقًا. وقد طفا هذا على السطح عندما أظهرت برلين تفضيلها لاستجابة أكثر ليونة من الاتحاد الأوروبي مقارنة بوارسو، التي دعت إلى عقد قمة طارئة بعد ساعات فقط من عبور القوات الروسية حدود الدولة الجورجية. واصطدمت الحكومتان مرة أخرى بسبب التوسعات المتتالية لحلف شمال الأطلسي، حيث قامت وارسو بدور الداعم الأكثر حماسة لوجود أوكرانيا وجورجيا بين الحلفاء، في حين برزت برلين باعتبارها “الدولة الأولى بين دعاة السلام” الذين حثوا على ضبط النفس في عملية قبول الوافدين الجدد. وأنهيا العقد بخلاف آخر خلال المناقشات حول المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو الذي تم الكشف عنه في قمة نوفمبر 2010 في لشبونة: ففي حين ضغطت بولندا من أجل زيادة التركيز على الاحتياجات الأمنية لشرق وسط أوروبا ودافعت عن سياسة “الباب المفتوح” للجيران، أكدت الدبلوماسية الألمانية على الحد من التسلح ونزع السلاح و “تجبير العلاقات” مع روسيا.
وعلى الرغم من أن نطاق الكتاب لا يمتد إلى ما بعد العام 2010، فمما تجدر الإشارة إليه أن الديناميكية المتذبذبة – المحاولات المستمرة للتعاون، التي عرقلها الاختلاف الشامل في مجال السياسات العليا – استمرت في صبغ العلاقة خلال العقد القادم، على النحو الذي سيتم مناقشته بمزيد من التفصيل في الفصل الختامي. ومهما يكن، فكما أبان هذا الاستعراض التاريخي، فمنذ أواخر التسعينيات، شهدت العلاقات البولندية – الألمانية صعودًا في الاختلافات الراسخة – بشكل كان مثارًا للدهشة – في مجال السياسة الخارجية والأمنية. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تفشل الدولتان فقط في الاتفاق على شيء، ولكن غالبًا ما اتخذتا مواقف متناقضة تمامًا بشأن بعض المسائل الرئيسة المتعلقة بالسياسة الخارجية التي واجهت الجماعة الأوروبية – الأطلسية. وفي حين أن الظروف السياسية الداخلية صاغت طبيعة الحوار بينهما، فإن الوقائع توضح أن نمط السياسة الأكثر ودية لم يكن يعني دائمًا تحولات كبيرة في الجوهر. وقد استقرت العلاقة منذ نهاية الحرب الباردة، وأصبحت بالفعل أكثر شبهًا بأن تكون علاقة شراكة بعد أن رحلت الحكومة الأكثر “واقعية” بقيادة شرودر في برلين والتحالف الأكثر تأييدًا للاتحاد الأوروبي بقيادة حزب المنصة المدنية الذي حكم في وارسو ابتداءً من العام 2007. لكن التوجهات التعاونية لم تغير النمط العام للخلاف في مجال السياسة الخارجية والأمنية. وبدلاً من النزوع إلى حالة من “التوافق في المصالح”، تكيَّف القِرْنان البولندي – الألماني على شيء أقرب إلى توافق المواءمات. وحتى في أفضل الأوقات، ربما يكون الطرفان قد “اتفقا على ألا يتفقا”، لكن على الرغم من الجهود المبذولة، ظلا “جارين غير ودودين”.[40]
حالة الحقل: الأدبيات والنظرية
في بحثه عن تفسير للخلاف البولندي – الألماني على مستوى السياسات العليا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يستند التحليل إلى مجموعة كبيرة من الأدبيات المختلفة، بما في ذلك نظرية العلاقات الدولية وتحليل السياسة الخارجية. وبشكل أكثر تحديدًا، فإنه يعرض للدراسات حول “المنظومات الإقليمية الأمنية”[ض] و “الأوربة” (الاندماج في الاتحاد الأوروبي)، بالإضافة إلى “الثقافات الاستراتيجية” و “التصورات حول الدور القومي”، والنصوص متعددة الأبعاد المعرفية في الدراسات الألمانية، والمادة المتعلقة بسياسة بولندا الداخلية والخارجية، بما في ذلك الأعمال المنشورة باللغتين التي من المرجح أن تكون غير مألوفة للقارئ الناطق بالإنكليزية. وكيفما كان، فإن الكتاب يشتغل بشكل أساسي على المعارف والدراسات الراهنة حول العلاقات الثنائية بين البلدين، والتي شهدت توسعًا ذا وتيرة متسارعة منذ نهاية الحرب الباردة.
وبالنظر إلى العدد الكبير من الدراسات والمجلدات المحررة والمقالات المكتوبة حول هذا الموضوع على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، فإنه لا يكاد يكون هناك حدث في تاريخ العلاقات بين وارسو وبرلين بعد الحرب الباردة لم يتم توثيقه واستكشافه بدقة من قبل الباحثين في مختلف التخصصات. ولكن على الرغم من مراكمة ثروة من المعرفة، فإن هذا العمل المثير للإعجاب كان بشكل عام أقل نجاحًا في تحديد أسباب ظواهر أو أحداث معينة، أو تفسير بعض الاتجاهات الواضحة منذ العام 1989. وكما هو متوقع، فقد تمت كتابة الجزء الأكبر من هذه الأدبيات من قبل خبراء متخصصين في منطقة أو بلد معين، وتم نشرها في أسواقهم المحلية، كما كانت موجهة إلى جمهور ضيق نسبيًّا. وقد هيمن على كثير منها التفسيرات التاريخية الوصفية، فضلاً عن قسط كبير من المقترحات السياسية التي غالبًا ما تعبر عن خيبة الأمل من الطريقة التي سارت عليها الأمور منذ مطلع القرن. وبالنظر إلى كمية المادة المنشورة، كانت هناك محاولات قليلة – بشكل كان مثارًا للدهشة – لإخضاع الموضوع لصرامة فحص علمي اجتماعي أكثر منهجية.
وعلى نحو أكثر ندرة كانت هناك تحليلات متعمقة على المستوى التنظيري ركزت بشكل خاص على الحوار البولندي – الألماني في مجال السياسة الخارجية والأمنية. فيما درست الكثير من الأدبيات العلاقة “بشكل إجمالي” عبر طيف واسع من القضايا ذات الطابع الثنائي والقائمة على العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف، والعلاقات السياسية والاقتصادية، والأبعاد المتداخلة ما بين المجتمعات. وفي حين أن هذه التفسيرات ذات الطابع الأكثر عمومية ضرورية لتحديد السمات العامة للعلاقات بين البلدين، فإن المقاربة القائمة على رسم الخطوط العريضة تزيد من مخاطر الخلط فيما يخص المتغيرات المستقلة. وعند معالجة الخلافات المتصاعدة حول التفسيرات التاريخية أو الآثار السياسية والقانونية لإرث ماضيهم المشحون بالعنف جنبًا إلى جنب مع الصراع في مجال السياسات العليا، هناك خطر المبالغة في تفسير الدور السببي للعوامل الفكرية التي تثير التوترات في النقاشات الثنائية المثقلة بالذكرى، غير أن هذا لا يفسر بالضرورة تضارب المصالح الأمنية للقِرْنَيْن في اللحظة الراهنة. وبناء على ذلك، فإن هذا العمل يفصل العلاقات في مجال السياسات العليا عن السياق الأوسع للعلاقة البولندية – الألمانية من أجل قطع الصلة المتصورة غالبًا بين الموروثات التاريخية والظواهر الأحدث.
ويمكن تصنيف الأدبيات الحالية المتعمقة على المستوى التنظيري حول العلاقات الألمانية – البولندية في فترة ما بعد الحرب الباردة في مجال السياسة الخارجية والأمنية في إطار معسكرين متمايزين: “المتفائلون بشأن التكامل” في التسعينيات و “المتشائمون بشأن الخلافات” الذين هيمنوا على الحقل منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إن هذين التجسدين من الأعمال هما اللذان تشتغل عليهما هذه الدراسة في المقام الأول، بالبناء على العديد من رؤاهما، وكذلك بلفت الانتباه إلى أوجه القصور فيهما، وتفنيد بعض الفرضيات والنتائج الخاصة بهما أيضًا.
المتفائلون بشأن التكامل: هل هو سلام مستقر في أوروبا الوسطى؟
اتجه الباحثون إلى نظرية التكامل لتفسير التحول من الصراع إلى التعاون بين الخصمين السابقين بعد العام 1989. وفي دراسة رائدة، جادل مارسين زابوروفسكي أنه منذ نهاية الحرب الباردة، اتجه القِرْنان لبناء “إجماع معياري” من خلال عملية “أوربة” (اندماج في الاتحاد الأوروبي)، لا تختلف عن ممارسة بناء التوافق الفرنسي – الألماني بعد الحرب.[41] واستنادًا إلى محورية العلاقات البولندية – الألمانية في السياق الأوسع لحلف شمال الأطلسي والتوسعات الشرقية للاتحاد الأوروبي، افترض أدريان هايد – برايس أن ثمة بزوغًا لفجر سلام مستقر في أوروبا الوسطى، مدعوم بـ “المحور البولندي – الألماني”.[42] وقرب نهاية العقد، اتجه عدد من الباحثين إلى دراسة مسألة ما إذا كان ثمة “توافق أمني” ناشئ في طور التكوين. وأبرزت الدراسة الاستقصائية المستفيضة التي استطلعت رأي عدد من النخب وتم إجراؤها بالاشتراك بين مركز العلاقات الدولية بوارسو ومركز العلوم الاجتماعية ببرلين التقارب في الآراء حول المسائل الدولية الرئيسة بين أعضاء حكومتي البلدين والنخب الوطنية، وافترض مجروها صعود “توافق [بولندي – ألماني] في المصالح والقيم”.[43] وكانت الرسالة الرئيسة في هذا الكم الكبير من الأدبيات هي أن العلاقات كانت تشهد استقرارًا وهو ما يُعزى في جانب منه إلى عملية تطبيع القوة داخل مؤسسات الجماعة الأوروبية. وكان من المتوقع بوضوح إلى حد ما أن تستمر العملية إلى ما بعد تحقيق المصالح الاستراتيجية المشتركة للدولتين باتجاه توسيع كل من الناتو والاتحاد الأوروبي، مع تأكيد بعض الباحثين على دور القِرْنَيْن البولندي – الألماني “كمرتكز” لعملية إعادة الدمج الأوسع في أوروبا بعد الحرب الباردة.[44]
وتنبع الفكرة القائلة بأنه يمكن التغلب على الفوضى بين الدول وتأسيس التكتلات من فرضية كارل دويتش التي ترجع إلى العام 1957 بأن النظام المستقر في منطقة شمال الأطلسي كان يتسم بشكل متزايد ليس بتوازن القوى، بل بالالتزام المعياري لأعضائه المؤسسين بالسلام.[45] واستنادًا إلى التقاليد البنيوية، قام أدلر وبارنت بتعميم مفهوم “السلام المستقر” بعد نهاية الحرب الباردة، تمامًا كما وعدت التوسعات الوشيكة لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بدمج بلدان شرق أوروبا الوسطى باتجاه التعايش السلمي الواثق مع الفضاء الأوروبي – الأطلسي الآمن.[46] وفي هذه الأثناء، انبثقت من الأدبيات المتعلقة بالأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) دراسة التكامل الأوروبي كسيرورة، وأصبحت تحظى بشعبية في حقبة ما بعد الحرب الباردة بفضل ممارسات “التطبيع” غير المسبوقة الجارية عبر الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن هذا الحقل الفرعي الضخم بين حقول علم السياسة المقارنة يتحدى التصنيف المتسرع، إلا أن هناك موضوعًا مشتركًا في الكثير من الدراسات حول الأوربة وهو: افتراض قدرة المشروع الأوروبي على تحقيق استتباب للعلاقات بين الدول، على الأقل جزئيًّا، من خلال عملية معرفية يشار إليها على نطاق واسع بـ “الدمج”.[47]
ويمثل التقارب البولندي – الألماني كما شهدناه خلال التسعينيات نموذجًا للتحول شبه المثالي في العلاقات بين خصمين سابقيْن في سياق الافتراضات حول قوة التطبيع داخل الجماعة الأوروبية.[48] بيد أنه بحلول مطلع الألفية، وعندما انضمت بولندا إلى حلف الناتو وبدأت في التفاوض على شروط انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، بدأت العلاقة تتسم بأن إنجازاتها أصبحت أقل إثارة للاهتمام، بل كان هناك عودة إلى الصراع تنطوي على مفارقة ظاهرة.[49] وبدلاً من أن تؤدي العملية المستمرة نحو تحقيق تكامل أوثق داخل المؤسسات المشتركة إلى درجة أعلى من الثقة المتبادلة والهوية المشتركة، فقد رافقها تزايد مذهل للخلافات، وتنامي عدم الثقة وانتهاك ما أشار إليه توماس ريس بالمعايير الموضوعية والقواعد الإجرائية للجماعة الأوروبية، مثل النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف والتشاور.[50] وربما كان الاحتكاك الناجم عن ذلك مجرد مرحلة في عملية الاندماج، قبل أن يتحقق استقرار العلاقات في قالب أكثر تأوربًا وما بعد حداثية. وبناءً على ذلك، فإن سجل الإدارة اللاعنفية لخلافاتهم يمكن أن يخدم تأكيد هيمنة السلام المستقر على العلاقات بين البلدين. ولكن بصرف النظر عن تسليطِ استمرارِ الخلافات ونطاقها في الحالة البولندية – الألمانية الضوءَ على حالة شذوذ عملية، فإن ذلك يثير عددًا من الأسئلة حول القيمة التنبؤية لأطروحتي المنظومات الإقليمية الأمنية وأطر الأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) اللتين كانتا تحظيان بشعبية لدى الدارسين في التسعينيات.
أولاً، القضية النظرية الرئيسة هي ميل المقاربتين للتعامل مع التكامل كعملية وظيفية وخطية إلى حد كبير. وفي حين أن أنصارهما لا ينكرون وجود سلوك تنافسي أو تضارب في المصالح بين الفاعلين، يبدو أنهم متفائلون بشكل مفرط من منطلق منطق شبيه بشكل غير مباشر بمنطق التكامل، ولا يقولون الكثير عن العوامل التي قد تعرقله أو تؤدي إلى انتكاسه.[51] ثانيًا، ينبني قدر كبير من هذا التفاؤل على افتراض أن الآثار الإدراكية الإيجابية الخارجية هي نتاج نمو التعاملات بين أعضاء المنظومة الأمنية. بيد أنه في الحالة البولندية – الألمانية، كانت الزيادة المفاجئة في عمليات التبادل، التي رافقت اندماج بولندا في مؤسسات الجماعة الأوروبية في فترة ما قبل الانضمام، هي التي أدت إلى إفراز أنماط جديدة من الخلافات.[52] وكما يذكرنا المؤسساتيون الليبراليون، فإن الاعتماد المتبادل المتزايد في ظل ظروف الاختلال الصارخ فى موازين القوى قد يعزز عدم الثقة والصراع، بدلاً من بناء الثقة أو إحداث التقارب.[53] ووفقًا لذلك، ثالثًا، يبدو الإطاران متفائلين إلى حد ما بشأن الوجهة النهائية للتكامل، أو ما يشكل في نهاية المطاف “الحالة السوية” في العلاقات البولندية – الألمانية في سياق الجماعة الأوروبية. وكما أظهرت الدراسةالتي قام بها مركز العلاقات الدولية بوارسو ومركز العلوم الاجتماعية ببرلين، فإن ظهور تلميح إلى وجود هوية مشتركة بين النخب البولندية والألمانية لم يمتد بالضرورة إلى الشعبين ككل، مما يشير إلى أن الاختلالات السوسيو-اقتصادية قد تعيق في الواقع عملية بناء التوافق.[54]
يقودنا هذا إلى النقطة الأخيرة وهي: الصمت النسبي في الأدبيات التي تدور حول موضوعي المنظومات الأمنية والأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) حول دور البنية وما يسمى بـ “عوامل القوة”.[55] فقد كان المتحمسون لكلا الإطارين يميلون إما إلى رؤية القوة كقوة استقطاب – في صورة دوائر متحدة المركز بدلاً من أقطاب قوة متعددة – أو البقاء صامتين بشأن المسألة تمامًا. وهذا لا ينسجم إلى حد ما مع الظواهر التي تم الوقوف عليها في الكتابات الحديثة حول المنظومات الأمنية، مثل سلوك “التوازن الناعم” داخل الجماعة الأوروبية الذي شوهد خلال أزمة العراق[56] – عندما قامت أوروبا “القديمة” ببناء تحالف مناهض للحرب بينما كانت “الجديدة” تتعاون مع واشنطن، ولكن نُظِرَ إلى ذلك بطريقة أخرى، هي أنه تحقيق للتوازن مع “أوروبا القديمة” – أو بشكل أكثر عمومية، على أنه تراجع – كان محل اعتراف على نطاق واسع – لجاذبية قوة الدفع الفرنسية – الألمانية في الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد التوسيع (لكن قبل التصويت على البريكست بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي!). وفي الواقع، فإن هناك أسباب للاعتقاد بأن وجود القوى العظمى بحد ذاته وعددها الإجمالي في المنظومة الأمنية من المرجح أن يكون له تأثير طويل المدى على قابليته للحياة وقدرته على البقاء والاستمرار: فكلما زاد عدد المتنافسين على القيادة، قل استقرار الجماعة.[57] وعلى نفس المنوال، فإن بعض النصوص الأحدث حول الأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) تهتم بالقوة والتباينات البنيوية الأخرى بحثًا عن أدلة لتفسير غياب التقارب في السياسات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي.[58] على أنه لم يتم دمج هذه الرؤىفي الأدبيات المتعلقة بالعلاقات البولندية – الألمانية، ويهدف هذا العمل إلى المساعدة في سد الفجوة القائمة.
المتشائمون بشأن الخلافات: هل هو صراع ثقافي عبر نهر الأودر؟
على الرغم من أن إطاريْ المنظومات الأمنية والأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) ربما بديا متفائلين بشكل مفرط أو على الأقل لف رؤيتهما الغموض تجاه الخلافات غير المتوقعة في السياسة الخارجية والأمنية بين البلدين، إلا أن الباحثين ظلوا مخلصين إلى حد كبير للأنطولوجيا الفكرية للنظرية البنيوية في تفسير تنامي حالة الصراع البولندي – الألماني. وقد هيمن على أدبيات “الخلافات” الموضوعات الثقافوية المستمدة من النظرية البنيوية، حيث تم انتقاء موضوعات الثقافات الاستراتيجية التي تشكلت عبر الخبرة التاريخية أو التصورات حول الدور القومي كمتغيرات شبه مستقلة، قيل إنها تفسر الأولويات المتضاربة والخيارات السياسية للدولتين.
ويؤكد الثقافويون أن الخلافات في وجهات النظر بين النخب البولندية والألمانية بشأن القضايا الدولية الرئيسة تنبع من الخبرات التاريخية المتناقضة لبلديهما والتي أدت إلى تصورات متباينة حول التهديدات.[59] وفي هذا السياق، يجادلون بأنه نتيجة للماضي الفريد لبلديهما، فإن مواقف صانعي القرار البولنديين والألمان تجاه بعض العناصر الرئيسة في أجندة السياسات العليا للجماعة الأوروبية ليست غير متشابهة فحسب، بل متمايزة وغالبًا ما تكون متناقضة تمامًا. وعلى سبيل المثال، يُدَّعى أن شرعية استخدام القوة أصبحت سؤالاً حاسمًا في سياسة برلين الأمنية ما بعد الحرب الباردة.[60] وبناءً على ذلك، فإنه يتم تفسير تحفظ ألمانيا النابع من حس ذاتي من خلال الإحالة إلى الصدمات التي مرت بها في القرن العشرين والتي زُعم أنها تركت النفسية الألمانية قلقة من قوة البلاد والتهديد الذي تشكله على جيرانها، وعلى النظام الدولي، وفي نهاية المطاف على نفسها أيضًا. وعلى النقيض من ذلك، وكنتيجة لإرث طويل من تسخير وإخضاع بولندا لمصالح القوى الأكبر منها، يجري الجدل حول أن النخبة السياسية البولندية ظلت منشغلة بمخاوف شديدة الكلاسيكية تتعلق بالبقاء والسيادة والاستقلال عن الجيران الأكثر قوة.
وقد نشأ الفرعان البحثيان: الثقافات الاستراتيجية[61] والتصورات حول الدور القومي،[62] في ذروة الحرب الباردة في السبعينيات، عندما بدأ الباحثون في البحث عن تفسيرات جديدة لخيارات السياسة الخارجية تتجاوز المفهوم الضيق للمصلحة الوطنية. وأدى استقرار النظام ثنائي القطبية إلى تضييق دائرة الحالات المتاحة لإجراء دراسة منهجية حول الهوية، ولم يشهد الانعطاف باتجاه المقاربات الثقافوية شيئًا من الانتعاش حتى نهاية الحرب الباردة. وفي الواقع، فقد كانت مفارقة “الاستمرارية” ذائعة الصيت فيما بعد إعادة التوحيد للسياسة الخارجية الألمانية في مواجهة التمكين المفاجئ هي التي قدمت حالة جديدة ساخنة لفحص التفسيرات التصورية لسلوك الفاعلين الدولتيين في سياق التغير البنيوي. وتعود بدايات صعود ما اعتبره البعض “هيمنة للمقاربات الثقافوية” في الدراسات الألمانية إلى مقالة هانس مول واسعة التأثير التي نشرتها مجلة فورين أفيرز، والتي وصف فيها الباحث ألمانيا بأنها “قوة مدنية”[ظ] تلتزم في سلوكها الخارجي بـ “ثقافة ضبط النفس”، وتنكُّب السعي وراء تحقيق المصالح الوطنية بمفهومها الضيق لصالح المبادئ العالمية مثل العدالة الاجتماعية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، وتسعى إلى تعزيز المؤسسات القائمة على العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف لحل النزاعات.[63] وعلى ما يبدو فإن ردود الفعل هذه تنبع من الدروس التي استخلصتها النخب الألمانية من الهزيمة المهينة للبلاد: حيث سلامية يسار الوسط التي رفعت شعار “لا حرب قط بعد الآن” ورد الفعل القائم على تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف الذي يؤكد على أنه “لن نكون وحدنا ثانية” والذي وجد خير تعبير عنه في مبدأ الالتزام بالموقف الغربي المرتبط بيمين الوسط.[64]
وجاء التحول الثقافوي في الأدبيات حول السلوك الخارجي لبولندا على خلفية تصدُّره الهنيء في الدراسات الألمانية. وعلى وجه التحديد، فقد دخل الحقلَ من خلال ممارسات مقارنة، وبحكم خبرتها التاريخية المباشرة، أصبحت الثقافة الاستراتيجية البولندية التي يُزعَم أنها أكثر تشددًا هي الأخرى في مواجهة القوة المدنية الألمانية.[65] وفي هذا السياق، افترض الباحثون أن سليقة السياسة الخارجية والأمنية في وارسو “تم ترسيخها” خلال الفترة التكوينية المبكرة التي أعقبت الحرب الباردة، أو ما تشير إليه آن سويندلر على أنه “فترة ثقافية غير مستقرة” فيها تخضع الهويات والمصالح لعملية تحول – وهي مرحلة يمكن مقارنتها بلحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا وميلاد ألمانيا الجديدة التي قطعت بشكل جذري مع إرثها النازي.[66] ووفقًا لذلك، يُدَّعى أن الثقافة الاستراتيجية لبولندا المستقلة تعكس الدروس المأساوية التي شكلت الوعي البولندي: حيث المخاوف من الخيانة المستلهمة من استرضاء الحلفاء لهتلر والتخلي عن بولندا الناتج عن تجربة التضحية بها في مؤتمر يالطا في العام 1945.[غ]
وعلى الرغم من أن الأدبيات الثقافوية قد ألقت الضوء على القوى التاريخية التي من المفترض أن تكشف عن الطريقة التي ينظر بها صانعو القرار في ألمانيا وبولندا إلى مصالحهم، وأبرزت الاعتبارات الفكرية والهوياتية التي تؤثر في خياراتهم السياسية، فقد كانت أقل نجاحًا في ترتيب الوزن السببي لهذه المتغيرات في تشكيل ما يُدَّعى أنه “ردود فعل” أو سلوك لكلا البلدين. وفي مقارنة بين مواقفهما المتباينة المفترضة تجاه النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف، يؤكد أولاف أوسيكا، على سبيل المثال، أن “بولندا، بسبب من الجغرافيا والتاريخ، تؤمن بعالم هوبزي، بدلاً من جنة كانطية”.[67]لكن يجدر التحقق مما إذا كان البولنديون متوائمين بالفعل مع القانون الهوبزي خلال منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لقد رأى الساسة البولنديون من مختلف أطيافهم أن مستقبل البلاد مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسات الأوروبية – الأطلسية.[68] وأكدت استطلاعات يوروباروميتر باستمرار دعم الجمهور البولندي الساحق لتبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف، والثقة في الاتحاد الأوروبي على نحو أكبر من الثقة الممنوحة للقادة المنتخبين على المستوى الوطني.[69] ولتلمُّس ذلك بطريقة أخرى، فقد كان البولنديون سليمو النية يتحيزون للمؤسسات ويتفهمون بشكل فطري قدرتها على التهدئة جيدًا لدرجة أنهم صُنِّفوا باستمرار على أنهم الأمة الأكثر دعمًا لتعميم منافعها على الجيران في الجماعة الأوروبية.[70] ويثير الانطباعُ بشأن المعطيات المسحية حول الموقف البولندي تجاه توسعات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مقابل الأرقام المناظرة من ألمانيا السؤالَ عن سبب تردد الألمان الذين هم من المفترض أكثر كانطية في مشاركة هبات جنة ما بعد الحداثة مع الأوروبيين الأقل حظًّا الذين يعيشون في الفوضى الهوبزية شرق نهر البوغ؟[أأ]
لقد قارن الثقافويون بين “الإيمان الغريزي بالتعاون الأطلسي”[71] أو “الأنانية التضامنية / ممارسة التضامن الانتقائي”[72] في بولندا المدفوعة بـ “الإيمان بالخلاص المسياني المقترن بجنون العظمة” أو “مسيانية المقهور”[73] مقابل “ثقافة التحفظ” الأكثر جاذبية من الزاوية المعيارية في ألمانيا، أو “النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف ذي الطابع القائم على رد الفعل تجاه الخبرة التاريخية” أو حتى “الهيمنة المترددة” المفترضة.[74] بيد أنه وكما أظهرت الأدبيات التي شهدت جنوح ألمانيا عن نموذج “الاستمرارية”، فإن أوراق اعتماد البلاد كقوة مدنية قد تضررت جراء عمليات الانتشار الخارجية التي قام بها الجيش الألماني، سواء في كوسوفو أو أفغانستان أو في مناطق أخرى. علاوة على ذلك، فقد جادل الباحثون بأن موقف برلين خلال أزمة العراق كان يُشتَم منه الرغبة في “إعادة التأهيل ورد الاعتبار لسياستها الخارجية” بدلاً من التحفظ المعياري وحده.[75] ولاحظ آخرون حدوث تحول في موقف ألمانيا تجاه النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف بشكل عام، وتبني مقاربة أكثر “اعتيادية” ومدفوعة بالمصالح الوطنية تجاه عملية التكامل الأوروبي، على وجه الخصوص، وهو ما يظهر بشكل أكثر وضوحًا في أعقاب أزمة الديون في منطقة اليورو.[76]
إن هذه المغالطات التجريبية هي في جزء منها نتاج عرضي للزلات المنهجية في أطروحات تحليل الخطاب لدى الثقافويين. فكثيرًا ما يقيس الباحثون الفرق بين ما يقال بدلاً مما يتم فعله في البلدين. ومن خلال إغفال الطبيعة الوظيفية للخطابات السياسية والاستخدام (وابتذال الاستخدام) الأداتي للخطاب السياسي من قبل الفاعلين – السياسيين الذين تحكمهم اعتبارات المنصب، وتقديم الحجج التي تهدف إلى تبرير أو حشد دعم الجماهير أو المجالس التشريعية أو النخبة البيروقراطية لخيارات سياسية معينة – قد يبالغ بعض الباحثين في أهمية العوامل الفكرية في تشكيل الطريقة التي يتعاطى بها صانعو القرار في بولندا وألمانيا. ففي أي نظام سياسي، لا بد للخطاب أن يتم وضعه في سياق تجربة تاريخية معينة. وكثيرًا ما يستدعي السياسيون الذاكرة التاريخية لتبرير أو شرح منطقهم. علاوة على ذلك، فمن شأن الحضور الهامشي لعنصر متطرف في الساحة السياسية أن يلوّن النقاش بشكل لا يتناسب مع حجمه في ظل بعض الظروف. لكن الممارسات الكلامية وحدها لا يجب أن تُظهر بالضرورة الاتجاه الذي تشير إليه العلة السببية: فالخطاب لا يستلزم التأثير على مخرجات السياسة ولا الكشف عن الدوافع الرئيسة للممارسات. وبالتالي، فإن التحليلات التي تمنح ميزة قطعية للخطاب لا تخاطر فقط بتزييف العلاقة بين السبب والمُسبَّب، ولكن من المحتمل أن تروِّج للأساطير والقوالب النمطية القائمة على حساب فحص التفسيرات المحتملة الأخرى أو الكشف عن حقائق أكثر موضوعية.
وهذا يؤدي إلى مشكلة أكثر خطورة تؤثر على تفسيرات العلاقة بين السبب والمُسبَّب حيث يقع الفصام بين الأولويات والسياسات. وبالتحديد، فإن إطار العمل يفترض تفسيرًا نظريًّا غير مرضٍ “للعلاقة بين الظاهرة الثقافية والنتائج الكلية”، أو الربط بين معتقدات النخبة أو العامة، والسلوك الفعلي.[77] وبجانب مشكلة الطوطولوجية[بب] في اختبار الفرضية الثقافوية التي سلط الضوء عليها النقاد – حيث الصقور هم كيت وكيت والمتشددون يفعلون كيت وكيت – فإن القضية الرئيسة هي غياب اعتبارات القوة.[78] فقبل أن تتمكن مجموعة من المعتقدات من التأثير على السياسات، يجب أن تواجه دائمًا بنية سوف تحدّ أو تمكن من تحقيقها. ومن المرجح أن تفسِّر العواملُ الذاتية السلوكَ حيث تكون الأفكار غير مقيدة نسبيًّا بالبنية. وبالمقابل، فإنها ستلقي القليل من الضوء على العلاقة العِلِّيَّة حيث يكون الفاعلون محدودين بشكل أكبر. ويستحضر هذا بالضرورة قضية القوة والتفاوتات البنيوية الأخرى بين الدول، والفجوات غير المتكافئة الموجودة بين معتقدات شعوبها أو نخبها، والحدود المادية للفعل في عالم حقيقي حيث تكون الأفكار مهمة، ولكنها ببساطة قد لا تكون كافية.
الإطار التحليلي: إعادة القوة إلى بؤرة الاهتمام
ما يظهر للعيان في الأدبيات المهيمنة في دراسة العلاقات البولندية – الألمانية منذ نهاية الحرب الباردة هو إهمال مستمر نسبيًّا لأسئلة مهمة حول القوة والبنية – ومن المفارقات أن ذلك نقطة انطلاق مناسبة على ما يبدو لاستيضاح العلاقات بين أي فاعلين، وبشكل خاص بين هذين القِرْنَيْن الخصمين تاريخيًّا في قلب القارة.[79] إن غياب اعتبارات القوة في التفسيرات الثقافوية أمر مؤسف للغاية، حيث إن الباحثين في السياسة الأوروبية لألمانيا المنتمين إلى مدرسة برمنغهام كانوا في طليعة المنادين بإعادة “القوة” إلى المقاربة البنيوية في تحليل السياسة الخارجية.[80] ولا يشير هذا الإغفال المستمر إلى مجرد هيمنة التفسيرات القائمة على “عوامل ذاتية داخلية”، ولكنه يؤشر أيضًا إلى وجود تحيز محتمل في الأبحاث المهيمنة حول العلاقة بين البلدين. وبصرف النظر عن التلميح إلى شكل من أشكال الارتباط التحليلي نظرًا لنفوذ الاتجاهات الثقافوية في الدراسات الألمانية، فيمكن أن تساعد عدة عوامل في تفسير هذا الوضع.[81]
لقد أصبح التقارب بين الشعبين ممكنًا فقط مع زوال العوائق البنيوية التي فرضتها الحرب الباردة، إذ أصبح من المفترض أن تكون نوعية العلاقات بين بولندا وألمانيا إحدى أدوار إرادة النخب الوطنية في البلدين. وبالنظر إلى “التحول الليبرالي”، لم يكن من المستغرب أن يتم تأطير سردية المصالحة كحبكة مثالية إلى حد ما لـ “نهاية التاريخ”، والتي بدت وكأنها تستبعد المخاوف بشأن بنية القوة. ويبدو أن هذه الرؤية قد تعززت بمرور الوقت، حيث خاب توقع الواقعية الجديدة المشئوم بالعودة إلى سياسات القوة في أوروبا – ومعه ألمانيا مسلحة نوويًّا – دون أن يتحقق.[82] وعلى الرغم من وجود عدم تكافؤ واضح في القوى بين القوة الوسطى الناشئة والدول الهشة المتاخمة لحدودها الشرقية، لم تتدن المنطقة إلى أن تصبح بمثابة مجرد فناء خلفي لألمانيا اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، كما توقعت بعض الكتابات الأكثر تشاؤمًا في فترة ما بعد الحرب الباردة مباشرة.[83] ولم يقتصر الأمر على استمرار المؤسسات الرئيسة للجماعة الأورو-أطلنطية، ولكن تحقق التوسع فيها بنجاح – وقد تم إنجاز ذلك إلى حد كبير بفضل دعم بون (العاصمة حتى العام 1990 حيث تم نقل العاصمة إلى برلين بعد اتحاد الألمانيتين)/ برلين الذي لم يتزعزع – على نحو سمح لبيتر كاتزنشتاين أن يستنتج بحلول العام 1997 أن “الأدلة الأولية […] تشير إلى أن انتهاء الحرب الباردة وتوحيد ألمانيا [لم يعيدا] ألمانيا وأوروبا الوسطى إلى نمط من العلاقات الثنائية المضطربة تاريخيًّا وغير المتكافئة”.[84]
وبعد عقدين من انضمام بولندا إلى الناتو وبدئها التفاوض بشأن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، حان الوقت لتقييم دور القوة والاختلالات البنيوية الأخرى في العلاقة بين البلدين، والتي أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من النسيج القائم على العمل في إطار تحالف متعدد الأطراف لـ “منطقة سلام” أوسع. لقد سلطت الأدبيات الضوء على أهمية التباينات الفكرية والهوياتية ذات المبررات التاريخية التي يفترض أنها كانت سببًا في حالة الشقاق بينهما، لكن الباحثين التزموا الصمت نسبيًّا حيال مسألة كيفية تأثير التفاوتات البنيوية على علاقات القِرْنَيْن داخل مؤسسات الجماعة الأوروبية. وعلى الرغم من أن علاقتهما قد لا تكون علاقة تبعية غير مشروطة، فمن أجل فهم الانفصام في السياسات العليا الذي تتصف به، يجب أن نأخذ في الاعتبار التباينات البنيوية والكوابح والفرص غير المتكافئة التي يواجهها البَلدان في تحقيق مصالحهما وتسيير سياساتهما. وقبل أن نفكر في أنواع المتغيرات الثقافية التي تؤثر على رؤى صانعي السياسات حول العالم وكيف تؤثر هذه الرؤى بعد ذلك على السياسة، يجب علينا تحديد الظروف البنيوية، التي توفر “الحيز النطاقي” الذي يعملون ضمنه.
ولا تستدعي اعتبارات القوة والبنية إبطال وإنكار دور الأفكار أو الهويات التي شكلتها الخبرة التاريخية، والمصالح التي يُقال إنها تُنْشئها، في تأسيس الوعي بالخلاف البولندي – الألماني. إن الاستكشاف الثقافوي ضروري لتحديد الاختلافات بين العوالم الشعورية لصانعي السياسة في البلدين وكيف تؤثر هذه بدورها على سلوكهم. لكن الأفكار والهويات لا يمكن معالجتها بمعزل على نحو مفتعل عن الحقائق البنيوية، التي تحد من الاحتمالات، وتحدد قدرات الفاعلين، وبالتالي تنظم بالضرورة أولوياتهم في نهاية المطاف.[85] إن تفسيرات النخب الوطنية والحكومات المنتخبة للواقع، وتصوراتهم والمُرشِّحات المعيارية التي من خلالها يلاحظون الحقائق المادية التي تحيط بهم مسألة مهمة. لكن هؤلاء الفاعلين مع ذلك يعملون في عالم من الحدود الواقعية للفعل و “في بيئة لا يستطيعون فيها، وفقًا لما يمليه عليهم العقلُ والحكمةُ، تجاهلَ القوة”.[86]
الأطروحة الرئيسة: عدم التكافؤ مسألة ذات أهمية خاصة
الأطروحة الرئيسة المثارة في هذا البحث هي أنه بدلاً من النظر إلى الأهمية السببية للعوامل الذاتية الداخلية – وعلى عكس المزاج السائد في الأدبيات التي تركز على صدام الأفكار والهويات المراكمة عبر الخبرة التاريخية – فإنه يتم تفسير النمط الثابت للفصام في السياسات العليا بين بولندا وألمانيا بشكل أفضل من خلال فحص للقوة والتفاوتات البنيوية الموجودة بين البلدين. ولكن كيف ومتى وما نوع التفاوتات التي تحدد الخلافات في السياسات الخارجية للقِرْنَيْن؟
تستند الأطروحة إلى ثلاث ركائز مفاهيمية. وفيما يتعلق بسؤال “كيف”، تتعلق الركيزة الأولى بـ “الوجوه” المختلفة للقوة التي نواجهها داخل الجماعة. إن محور أطروحة هذا العمل هو حقيقة أنه على عكس ما حدث في الماضي، عند انضمام بولندا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، فقد أصبحت العلاقة بين البلدين “متداخلة” في المؤسسات الأوروبية – الأطلسية، حيث يُتاح استخدام قوة الدولة وفق مجموعة من القواعد والمعايير تجعل استخدامها مكلفًا وقد يؤدي إلى نتائج عكسية. وعندما تكون العلاقات مؤسسية للغاية، والتعاملات اعتيادية وموصولة وتتسم بالتبادلية، فإن عملية تفحص ‘القدرة على تحقيق الهيمنة’ تفشل ليس فقط في تفسير كيفية تشكُّل النتائج، ولكن في إلقاء الضوء بشكل حاسم على الطريقة التي يكون فيها الفاعلون غير مهيئين بشكل متكافئ في الأغلب لتشكيل مستقبلهم ومصائرهم. ومن أجل فهم دور البنية في العلاقات بين بولندا وألمانيا اليوم، يجب علينا أن نسبر كيف أن السياق الاجتماعي والعمليات المتصلة بالعلاقات البينية التي تنطوي عليه، تولد لديهما قدرات غير متكافئة على تحديد مصالحهم ومثلهم العليا والعمل على تحقيقها. وبالتالي فإنه بدلاً من التركيز على نمط القوة القسري أو “الواقعي”، فإن الأطروحة تحدد وتستكشف دور الضروب الأقل وضوحًا من القوة المؤسسية والهيكلية (أو البنيوية)، المرتبطة عادة بالمدرستين المؤسساتية والبنيوية.
وتتعلق الركيزة الثانية بسؤال “متى”. وهي تعني أنه من أجل فهم أفضل لعمل صور القوة الأقل وضوحًا، فإنه بدلاً من التركيز على مواقف التفاوض بين الدول أو تعداد تأثير الفاعلين على النتائج وحدها، فمن الضروري مراعاة المراحل المختلفة للعملية السياسية عندما تكون البنية ذات تأثير أو يكون بالإمكان استخدام القوة. ويسبر التحليل الطريقة التي يتم من خلالها إطلاق العنان أمام الخيارات السياسية للقِرْنَين أو كبحها عبر القوة والبنية: فهو يقوم بدراسة العلاقة بين القوة “الإيجابية” و “السلبية”، ويتفحص “المقاومة” باعتبارها الجانب الآخر من القوة المؤسسية عند وضع الأجندات وترسيمها. وللمضي قدمًا، تبحث الفصول التجريبية، من خلال تحديد الاحتمالات التي يمكن تخيلها، الطريقةَ التي تنظم بها الاعتبارات البنيوية بشكل ثابت فهم الدولتين لمصالحهما العليا.
وتحصي الركيزة الثالثة والرئيسة دور الظروف البنيوية، و “مصادر” قوة الدولة وتوزيعها غير المتكافئ بين عضويْ الجماعة. أولاً، بالإلماع إلى إرث علاقاتهما المشحون بالعنف واحتكامًا إلى الأنطولوجيا المادية للواقعية، فإنها تقيس وضعية الفاعليْن في النظام الدولي كدالة للقدرات الكلية لكل منهما (البعد المادي). ثانيًا، بالاستناد إلى الواقعيين الدفاعيين والباحثين في الجيوبوليتيك – المهتمين بالتوزيع النسبي للقوة داخل منطقة محددة، وعدد القوى “العظمى” في نظام معين والقوة النسبية للجيران – وأيضًا إلى المنظرين من منظور النظم العالمية – الذين من بين أمور أخرى يدرسون دور “المسافة المكانية الفاصلة” في تفسير العلاقات بين المركز والأطراف – فإنها تتعامل مع الموقع الجيوسياسي و “الجيو – اقتصادي” كعوامل أساسية لقوة الدولة (البعد المكاني).[87] أخيرًا، مثل المؤسساتيين الذين يرون المنظمات الدولية بمثابة قنوات لممارسة أشكال أكثر اتساعًا للقوة، يفترض التحليل أن مستوى التكامل أو “الشراكة” في نظام رسمي أو غير رسمي معين هو مكون محوري للقوة المؤسسية لأعضائه. ولكن بدلاً من التركيز على القدرات الكلية وحدها، فإنه يشير إلى البُعد الزمني – كالتمييز بين الأعضاء والمرشحين، أو الأعضاء القدامى والجدد، على سبيل المثال – والسياق التاريخي كمحددات لقدرات الدول غير المتكافئة على تشكيل المؤسسات عند تأسيسها، أو التأثير على تطورها اللاحق بمرور الوقت (البعد الزمني).[88]
وبالنظر إلى ما سبق واستنادًا إلى أربع قضايا مختلفة تم استجلاؤها في فصول دراسة الحالة، تفترض الأطروحة أن المؤسسات الأوروبية – الأطلسية تشكّل بنية من الكوابح والفرص غير المتكافئة للفاعليْن. وفيما يتعلق بالكوابح، فكمحصلة لقوتها المادية الأكبر، وموقعها الأكثر ملاءمة في قلب الجماعة الأوروبيةوالعلاقات المتشابكة المتينة عبر الأطلسي – و ‘الارتباطات’ التي تمثل إرثًا من الاعتماد المتبادل المعقد الذي نشأ بقوة خلال السنوات الطويلة للحرب الباردة مع الضامن الأساسي لأمن القارة، متمثلاً في الولايات المتحدة – تمتعت الدولة الألمانية التي أعيد توحيدها بعد العام 1989 بمستوى أعلى نسبيًّا من الاستقلالية في سعيها لتحقيق مصالحها وسياساتها الخارجية والأمنية. وفي المقابل، فإن بولندا لا تزال فاعلًا أقل قوة بشكل ملحوظ، وتقع على أطراف القارة الأوروبية حيث تتاخمها حدود أقل استقرارًا وجيران خارجيون سريعو التقلب ولا يمكن التنبؤ بسلوكهم بشكل كبير عبر نهر البوغ. ونتيجة لهذه العوامل، بالإضافة إلى ما يترتب على ذلك من “ضعف مستوى التوافق” بين مصالحها الخاصة والمؤشر الإجمالي لمصالح الجماعة الأوروبية، ودرجة “الشراكة” والتكامل المنخفضة نسبيًّا في الناتو والاتحاد الأوروبي، و “التطور” المستمر في علاقاتها الثنائية مع واشنطن، فقد واجهت عقبات أكبر بكثير في رسم سياستها الخارجية.
وفيما يتعلق بالمحفزات، فبسبب قوتها الديموغرافية والاقتصادية، فضلاً عن حضورها في عملية “النشأة المؤسسية” للمجموعات الأوروبية (EC) / الاتحاد الأوروبي وعضويتها الأطول في الناتو، فقد كانت الجمهورية الفيدرالية أكثر قدرة على “إعادة دولبة” المنظمتين لتعكس مصالحها وقد طورت مؤسساتها الوطنية الخاصة جنبًا إلى جنب مع عملية الارتقاء التدريجي بها. أما بولندا فبصفتها من الوافدين الجدد نسبيًّا على الناتو، ومن الأعضاء الأحدث انضمامًا إلى الاتحاد الأوروبي، فقد كافحت بدلاً من ذلك للوفاء بالتزامات العضوية. وقد حاولت مؤخرًا (وبصورة خرقاء في كثير من الأحيان) أن تشارك في تشكيل النظامين وصياغة أطر سياساتهما لتتناسب بشكل وثيق مع أولوياتها – والتي بدأت للتو في الكشف عنها جنبًا إلى جنب مع هذه العملية. ولا يعني ذلك أن “اللحاق بالركب” غير ممكن أو أنه لا يضيِّق الفجوة الهيكلية بين البلدين، بل لنفترض أنه يمكننا أن نتوقع من بولندا ذلك القادم الجديد الأقل قوة والبعيد عن المركز، ليس فقط ألا تخضع لمستوى غير متساو من التأثير على مخرجات المساومات السياسية، ولكن أن تسعى أيضًا إلى تحقيق مصالح مختلفة، وأن تواجه خيارات سياسية متباينة وتُقدِم على الانتقاء من بينها في نهاية المطاف، أكثر من ألمانيا العضو المؤسس الأكثر هيمنة والمحوري في أوروبا. إن هذه الاستعدادات غير المتكافئة، وليست الأفكار والهويات المتمايزة المزعومة لنخب البلدين، هي التي تلقي في النهاية مزيدًا من الضوء على جذور نمط الفصام الموصول بينهما في دائرة السياسات العليا داخل المؤسسات الأوروبية – الأطلسية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وثاقة الصلة بالموضوع
على الرغم من أن الأطروحة تنبني على عمل مكثف حافل نسبيًّا حول العلاقات بين بولندا وألمانيا، إلا أنه من خلال التركيز على دور التباينات الهيكلية، فإنها تهدف إلى سد فجوة بحثية قائمة وتقديم مساهمة متعددة الأوجه للأدبيات. فهي أولاً، تقدم تحليلاً شاملاً للتباينات الهيكلية بين البلدين: إذ لا تحدد فقط ثلاثة أنماط من الفجوات الهيكلية، ولكنها – مع استشراف التقاليد النظرية الاجتماعية المختلفة – تستكشف أيضًا أبعادها المختلفة وتفحص بشكل منهجي كيف ومتى قامت بتكييف حالة الفصام البولندي – الألماني عبر أربع دوائر مختلفة من القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمنية. ثانيًا، ينفسح البحث “لمزج” الضروب الثلاثة من التباينات ليس فقط من أجل تفسير أدوارها الخاصة، ولكن أيضًا لإظهار مدى ترابطها، واندماجها في بعض الحالات لخلق ديناميكيات فعالة محددة (“التباينات المفرطة”). وعلى الرغم من أن الحفاظ على المتغيرات المستقلة المختلفة معزولة بشكل صارم أمر بالغ الأهمية للأغراض التحليلية، إلا أن الدراسة تحدد كيف ولماذا تكتسب هذه المتغيرات أهمية في منظومات محددة متراصة جنبًا إلى جنب.
ثالثًا، تتمثل المساهمة المميزة لهذا العمل، في هذا السياق، في فحص مستوى و “عمق” تكامل الأعضاء المعنيين في نظام دولي معين. وبدلاً من الرد والعزو إلى منطق “الدمج” كعملية معرفية – كما هو شائع في كثير من أدبيات الأوربة (الاندماج في الاتحاد الأوروبي) – يقترح التحليل تفاعلًا أكثر حيوية مع العوامل الهيكلية، بما في ذلك الجانب الزمني، وبالتالي معاودة النقاش حول مسألة “الشراكة” التي أهملها الباحثون حتى الآن. وإلى حد ما، قد تساعد وجهة النظر هذه في تعزيز فهمنا “للدمج” كعملية. أخيرًا، يطرح الإطار تفسيرات لبعض الأحاجي التجريبية التي تصدى لها أنصار التوجه الثقافوي المهيمن، لكنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير لها برمتها.
المنهجية واختيار الحالة
يوظِّف العمل تقنية التحليل المنهجي المقارن لعدد صغير من الحالات (small-N methodology) واستراتيجية البحث النوعي لدراسة تأثير القوة والتباينات الهيكلية الأخرى على حالة التضارب البولندي – الألماني في مجال السياسات العليا. ونظرًا لطبيعتها الاستكشافية، فإن الدراسة تستند إلى تصميم بحثي مرن نسبيًا. إذ لا يمكن قياس آثار الظروف الهيكلية غير المتكافئة على إدراك صانعي السياسات لمصالح بلدانهم، وعلى الخيارات السياسية التي يقدمون عليها، وفي الأخير، على شكل الصفقات التي يبرمونها، بمقارنة المواقف والمخرجات التفاوضية. وإنما يتم تتبعها بشكل أفضل من خلال عمليات استقراء أكثر شمولاً، والتي تتيح إجراء تقييمات نوعية لأحداث وبيانات معينة، بدلاً من اتباع مقاربة كمية صارمة. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يكون البحث النوعي مفيدًا بشكل خاص عندما لا يُعرف سوى القليل عن ظواهر معينة: فعلى الرغم من الكم الهائل من الأدبيات المتاحة، فإن هناك نقصًا في التقييمات المقارنة للطريقة التي تؤثر بها البُنَى على نظرة صانعي القرار البولنديين والألمان تجاه العالم، وترسِّم خطوط ما يمكنهم تحقيقه بشكل واقعي داخل المؤسسات الأوروبية – الأطلسية.
إن الدافع وراء استراتيجية البحث في هذا العمل ليس التثبُّت الصارم من النظريات المتنافسة أو التوصيفات المسبقة الثابتة. وبدلاً من ذلك، “ينفسح” التصميم بينما يمضي البحث قدمًا عبر سرد تحليلي لحالة التضارب البولندي – الألماني في مجالات السياسات المختلفة. وعلى الرغم من طرح المقترحات التصنيفية في الفصل التالي للاسترشاد بها في جمع البيانات وتحليلها، إلا أنه لا ينبغي فهمها على أنها فرضيات مؤكدة تمامًا أو قوانين مسبقة. وهذا يسهل التعامل مع البيانات بشكل أكثر حميمية عندما لا تكون القضايا المطروحة متفق عليها تمامًا، مما يسمح بالتركيز على السيرورة، بدلاً من النتائج وحدها.
إن المقاربة المنهجية هنا هي “دراسة الحالة” و “تتبع العمليات” على أرضية نظرية العلاقات الدولية.[89] ومن أجل التغلب على التحيز الانتقائي بالاقتصار على زوج واحد من الفاعلين، يتطور التحليل عبر أربعة أطر تعالج كل منها قضية مستقلة، على نحو تتولد فيه معطياتغنية ويتعاظم التباين في كل من المتغيرات التابعة والمستقلة. وتتميز مجالات السياسات التي تم تناولها في كل من الفصول الأربعة بدرجات متفاوتة من الاختلاف بين البلدين، ولكنها تحتوي أيضًا على حالات وشواهد تقارب، مما يتيح إجراء تحليل شامل للتغيرات المصاحبة بين المتغيرات المختلفة، داخل الحالات وفيما بينها على حد سواء. وقد تم اختيار مجالات القضايا على أساس موقعها على رأس أجندتي السياسة الخارجية والأمنية للبلدين أو قريبًا منها، وبروزها في الخطاب السياسي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويتيح تتبع العمليات استخلاص استنتاجات حول الميكانيزمات السببية ضمن السياق البولندي – الألماني، إلا أن هدفه أيضًا هو التزود بنظرة متعمقة لشريحة أوسع من الحالات بعيدًا عن هذا الزوج الوَحِد من الجيران.[90]
وفيما يتعلق بالأساليب، تستند الدراسة إلى معطيات متعددة المصادر محررة باللغات الأم من أجل زيادة الصلاحية البنيوية[جج] وإتاحة استخدام استراتيجية تثليث البيانات.[دد] وتشتمل المادة البحثية على وثائق رسمية (مواقف الحكومات وأوراق تخطيط السياسات، وبرامج الأحزاب السياسية وغيرها من القرائن المختارة)، والمناقشات البرلمانية والبيانات التي ألقاها الساسة في كلا البلدين، وعينة واسعة من المقالات الصحفية والمقابلات الإعلامية مع صانعي السياسات الرئيسيين. وعلاوة على ذلك، فنظرًا لأهمية القضايا التي تم تناولها في هذا الاستقصاء العلمي، فقد اعتمد البحث على مادة ثرّة من الأدبيات المتاحة باللغات البولندية والألمانية والإنجليزية. وقد قام عدد مختار من المبحوثين المشاركين من كلا البلدين بتزويد المؤلف باستنتاجاتهم التفسيرية المتصورة عن بعض العمليات التفاوضية قيد الدراسة.
وينشعب البحث عبر أربع دراسات حالة، كل منها يعالج التضارب في نطاق قضية معينة. فيما يؤسس الفصل التالي لإطار مفاهيمي لتحليل دلالة التباينات الهيكلية بين أعضاء الجماعات التي يهيمن عليها طابع مؤسسي راسخ، مع ترسيم خطوط عريضة لنموذج وصفي فريد من نوعه للاسترشاد به في فحص جميع الحالات بشكل فضفاض. وينقسم كل فصل من فصول دراسة الحالة اللاحقة إلى قسمين. يصف القسم الأول حالة معينة من الصراع تجريبيًّا، ويضعها في سياق تاريخي. فيما يقوم القسم الثاني بتوجيه النقد للتفسيرات التي تقدمها الأدبيات المهيمنة، ثم ينتقل لتقييم دور التباينات الهيكلية في تكييف الخلافات بين وارسو وبرلين، وعندما تقتضي الحاجة، يقوم بفحص النتائج في مقابل التفسيرات الأخرى.
ووفقًا لذلك، يفحص الفصل الثالث الخلافات بين البلدين في سياق العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، ويسبر على وجه التحديد أسباب استجاباتهما المتعارضة للتحول المطرد لحلف الناتو من اتفاقية دفاعية إلى منظمة أمنية أكثر اتسامًا بطابع متعدد الأوجه خلال أوائل القرن الحادي والعشرين. ويحوّل الفصل الرابع التركيز إلى التكامل الأوروبي، ويحلل الصدامات بين القِرْنَيْن حول أوزان تصويت الدول الأعضاء في مجلس الاتحاد الأوروبي التي أخرجت مؤتمر حكومات الاتحاد الأوروبي (IGC) لعام 2003 الذي كان قد انعقد لوضع اللمسات الأخيرة على الدستور الأوروبي عن مساره عمليًّا. وفي انكباب على العلاقات مع روسيا والجيران الشرقيين، يبحث الفصل الخامس في مقاربات بولندا وألمانيا – التي اتسمت بالتعاونية التشاركية في البداية، وبالتنافسية في الأخير – لسياسة الجوار الأوروبية ومشروعات الشراكة الشرقية. وأخيرًا، يعالج الفصل السادس الخلاف حول خط أنابيب الغاز الطبيعي نورد ستريم ‘التيار الشمالي’ ويستكشف المواقف المتباينة للفاعليْن تجاه أمن الإمدادات الخارجية لبلديهما في سياق المحاولات البديئة لصياغة سياسة طاقة متماسكة للاتحاد الأوروبي. ويقدم الفصل الختامي نظرة عامة شاملة على النقاشات ويربط النتائج في دراسات الحالة المستقلة الأربع بعضها ببعض. هذا وقد تم اقتراح عدة أفكار تتطلب المزيد من البحث في نهاية الكتاب.
الحواشي