بقلم محمد بشير جوب
ظهرت الهجرة على الساحة الدولية كظاهرةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ، خلفت الكثير من التداعيات والآثار؛ ما أدى إلى تحولها إلى ظاهرةٍ قانونيةٍ تورّطت فيها أطرافٌ متعددةٌ، وعلى رأسها دول المنشأ ودول الاستقبال بالإضافة إلى المنظمات الدولية الناشطة في هذا الصدد، وقد تفاقمت مشكلة المهاجرين في الآونة الأخيرة ومثلت تحدياً كبيراً للمجتمع الدولي، ولم ينجح المجتمع الدولي حتى الآن في وضع حلولٍ دائمةٍ لها، في وقتٍ تزداد فيه معاناة المهاجرين يوماً بعد يوم، فبالنسبة لدول المنشأ تقف الحكومات عاجزةً عن توفير ظروفٍ ملائمةٍ لشعوبها تمنعهم من الهجرة، وبالنسبة لدول الاستقبال أو العبور فكل دولةٍ تعد مسؤولةً عن وضع سياستها المتعلقة بالهجرة، وغالباً ما تتذرع هذه الدول بالسيادة الوطنية أو بحماية الأمن القومي، لوضع سياساتٍ وإجراءاتٍ تعد منتهكة لحقوق المهاجرين، فيما تقف المنظمات الدولية والمؤسسات المعنية عاجزةً عن الوفاء بوعودها تجاه المهاجرين.
الأطر المفاهيمية والظروف الراهنة:
حسب علم السكان (الديموغرافيا) فالهجرة هي الانتقال فردياً أو جماعياً من موقع الى آخر بحثاً عن وضع أفضل اجتماعياً او اقتصادياً أو دينياً او سياسياً، وهي ظاهرةٌ قديمةٌ تطورت مع حياة الإنسان، وهذا ما جعل المصطلح مُقعداً إلى درجة يصعب إيجاد تعريف موحدٍ له، وتكاد التعريفات تتفق على أنها انتقالٌ مؤقتٌ في حركة الأفراد والجماعات، فالهجرة إذاً “ظاهرةٌ اجتماعيةٌ قديمةٌ ينتقل فيها الفرد أو الجماعة من مكان لآخر تاركًا وطنه لوطن جديد سعيًا وراء الرزق سواء كان ذلك بإرادته أم لظروف خارجة عن إرادته”(1).
ولعل أهم ما يعنينا أكثر في هذه الدراسة هو المعيار القانوني للهجرة، ففي توصيات الأمم المتحدة بشأن إحصاءات الهجرة الدولية، ورد أن المهاجر الدولي هو كل شخصٍ يغير بلد إقامته المعتادة، وفي نفس التوصيات ورد أيضا، أن المهاجر لمدة طويلة هو كل شخصٍ ينتقل من بلد إلى بلد آخر غير بلد إقامته المعتاد لمدة لا تقل عن اثني عشر شهراً، والمهاجر لمدةٍ قصيرةٍ هو كل شخصٍ يذهب إلى بلدٍ آخر غير بلد إقامته المعتاد لمدة ثلاثة أشهرٍ على الأقل وأقل من سنة، باستثناء الحالات التي يكون فيها السفر لغرض الترفيه، والعطلة، وزيارة الأصدقاء أو العائلة وسفر العمل والعلاج الطبي أو الحج، وأوردت الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع المهجرين لللأمم المتحدة تعريفا للهجرة بالنص على أن العامل المهاجر هو “الشخص الذي يزاول أو سيزاول أو مابرح يزاول نشاطا مقابل أجر في دولة ليس من رعاياها”.
وبجانب الهجرة الدولية الشرعية يوجد الهجرة غير الشرعية أو غير المشروعة، ويُقصد بها “الدخول غير المشروع” عبور الحدود دون التقيّد بالشروط اللازمة للدخول المشروع إلى الدولة المستقبلة (2) أو هي الانتقال من الوطن الأم إلى الوطن المهاجر إليه للإقامة فيه بصفة مستمرة بطريقة مخالفة للقواعد المنظمة للهجرة بين الدول طبقاً لأحكام القانون الداخلي والدولي.
ولعل بالإمكان تحديد أنواع المهاجرين غير الشرعيين في ثلاثة أنواع:
1 – الأشخاص الذين يدخلون بطريقة غير قانونية دول الاستقبال ولا يسوون وضعهم القانوني.
2 – الاشخاص الذين يدخلون دول الاستقبال بطريقةٍ قانونيةٍ ويمكثون هناك بعد انقضاء مدة الإقامة القانونية.
3 – الاشخاص الذين يعملون بطريقةٍ غير قانونيةٍ خلال إقامةٍ مسموحٍ بها قانوناً.
وحسب إحصاءات قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى الأمم المتحدة، بلغ عدد المهاجرين الدوليين 232 مليون شخص، أي 3,2 بالمائة من سكان العالم، وثلثي جميع المهاجرين الدوليين يعيشون في أوروبا التي يوجد فيها 76 مليون شخص، فيما يقدر ثلث المهاجرين من أصول أفريقية (3).
وبالإضافة إلى المهاجرين الشرعيين يوجد عددٌ هائلٌ من المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة، حيث يتخذ هؤلاء المهاجرين مناطق مختلفة للعبور إلى أروبا، مثل معبر غورغور أعلى المغرب، أو عبر البحر المتوسط انطلاقاً من ليبيا والجزائر، ففي يوليو 2016 وصل عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين مروا عبر ليبيا إلى إيطاليا إلى 23522 مهاجر(4)، وقد وصل أكثر من 50 ألف مهاجر الى الساحل الإيطالي منذ بداية هذا العام، بينما غرق أكثر من 1400 مهاجر أو فقدوا، وفقا لما ذكرته أرقام الأمم المتحدة (5) بل تشير بعض التقديرات إلى عبور 5000 مهاجر عبر ليبيا في أسبوعٍ واحدٍ فقط (6) ومن بين 181،000 مهاجر دخلوا إيطاليا العام الماضي، وصل نحو 90 في المئة عبر ليبيا، وأظهرت بيانات المنظمة الدولية للهجرة أن 358403 من المهاجرين واللاجئين دخلوا أوروبا عبر البحر، وحتى 21 ديسمبر 2016 وصل معظمهم عبر اليونان وإيطاليا (7).
الاتجاهات السياسية للاتحاد الأوربي تجاه المهاجرين الأفارقة:
تعد أروبا أكثر القارات استقطاباً للمهاجرين، حيث تشير الإحصاءات أن حوالي 6.4 % من سكان الاتحاد الأوربي مهاجرون، ويعيش 75% منهم في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة (8)، وما بين 2005 إلى 2006 فقط، ارتفع عدد المهاجرين غير الشرعيين من غرب أفريقيا من 5 آلاف إلى 30 ألف مهاجر (9)، ويعد وسط البحر الأبيض المتوسط الطريق المفضل للمهاجرين غير الشرعيين، ففي فرنسا مثلاً تطور موضوع الهجرة بشكلٍ سريعٍ، فكان المهاجرين ذوو الأصول الأفريقية من جنوب الصحراء في فرنسا يقدر بـ 20 ألف فقط في سنة 1962، وسرعان ما تضاعف العدد في 2004 إلى 570 ألف مهاجر(10)، وفيما بين دول المنشأ والعبور والاستقبال تقع المسؤولية القانونية في حماية حقوق المهاجرين، وقد اتخذت الدول الأوربية المتمثلة في الاتحاد الأوربي عدة سياساتٍ لمواجهة ظاهرة الهجرة، ويمكن حصر هذه السياسة في اتجاهين أساسيين هما: الاتجاه التشريعي والاتجاه الأمني.
أولا: الاتجاه التشريعي.
تندرج الحقوق الواجبة احترامها للمهاجرين تحت الحقوق الأساسية العامة لكل إنسان، فهي ليست حقوقاً استثنائيةً أو ذات طبيعةٍ خاصةٍ، حيث يجب أن يتمتع المهاجر بالحقوق الاقتصادية مثل حقّ العمل والتملك والتصرف وبالحقوق الاجتماعية كحقّ تكوين الأسرة والضمان الاجتماعي، وبسائر الحقوق الأساسية الأخرى كحقّ الحياة والحرية والعدالة والتنقل دون أي نوع من أنواع التمييز، وقد ضمن ذلك الاتفاقات الدولية والتشريعات الوطنية في هذا الشأن.
لقد بادرت أروبا منذ الوهلة الأولى إلى اتخاذ التدابير التشريعية لمواجهة ظاهرة الهجرة، فبدأ كل دولة باتخاذ سياستها وتشريعها الخاص في مجال الهجرة، ثم تغير هذا التوجه، فبدأت الدول تنظر إلى القضية بأنها تخص الدول الأوربية جمعاء، فكان ذلك بداية السعي لإيجاد سياساتٍ مشتركةٍ بين دول الاتحاد الأوربي من جانب، وبينها وبين الدول خارج الاتحاد من جانب آخر، فكان أول اتفاقيةٍ جماعيةٍ في شأن الهجرة في سنة 1985 وهي الاتفاقية المعروفة باتفاقية “شنغن”، ثم تتاولت بعد ذلك القمم والاتفاقات الجماعية لدول الاتحاد الأوربي.
ففي قمة “تامبير” 1999 قرر رؤساء دول الاتحادالأوربي تبني سياسةٍ مشتركةٍ للتعامل مع الهجرة من أجل سد الثغرات في المجال الاقتصادي كتوفير الأيادي العاملة، وفي قمة “سالونيكي” يونيو 2003 حاولوا وضع معايير موحدةً لدول الاتحاد من أجل التصدي للهجرة السرية وتضييق فرص الدخول إلى أوروبا إلا وفق شروط محددة، وفي مبادرة مكملة لهذه السياسة تبنى مجلس الاتحاد الأوربي برنامج لاهاي سنة 2004 والذي يضع أهدافا لتقوية الحرية والأمن ضمن الاتحاد الأوربي خلال الفترة ما بين 2005 ـــ 2010، وكانت أهدافه الرئيسية تقوية الحقوق الأساسية كحرية التنقل، وتطوير إدارة متكاملة للحدود الخارجية للاتحاد الأوربي، وفرض إجراءاتٍ مشتركةٍ وضمان إجراءاتٍ وقائيةٍ فعالةٍ، وفي خطوةٍ تعتبر نقلة نوعية وخطيرة أصدر المجلس الأوربي في 11 يناير 2005 الكتاب الأخضر حول الهجرة الذي كان الهدف منه الاستفادة من عقول الدول النامية، واستنزاف خيراتها من ذوي الكفاءات، فكانت نظرة انتقائيةً بحتية لشأن الهجرة تم فيها مراعاة البعد الاقتصادي فقط، وإهمال الجوانب الأخرى.
كانت آخر محاولةٍ تشريعيةٍ لدول الاتحاد الأوربي في 2008 حيث التزمت الدول الأوربية بخمس تعهدات رئيسية لبلورة كل الاتفاقات السابقة في آليات تنفيذية، وخاصة برنامج لاهاي وهذه التعهدات هي:
– تنظيم الهجرة القانونية مع الأخذ في الاعتبار الأولويات والاحتياجات والقدرات التي تحددها كل دولة من دول الاستقبال الأعضاء في الاتحاد مع تعزيز التكامل.
– مكافحة الهجرة غير الشرعية، من خلال ضمان عودتهم الى وطنهم الأصلي أو بلد العبور، أو بلد الإقامة غير الشرعية.
– تعزيز فعالية الرقابة على الحدود.
– بناء أوروبا اللجوء.
– خلق شراكةٍ شاملةٍ مع بلدان المنشأ والعبور من خلال تشجيع التآزر بين الهجرة والتنمية (11).
وبجانب هذه التشريعات على مستوى الاتحاد الأوربي، كانت كل دولة أيضا تهتم بوضع تشريعات وطنية تلزم بها حكوماتها، وكان أكبر إشكال حال دون نجاح السياسات الجماعية المشتركة، تكمن في محاولة معظم دول الاتحاد الأوروبي ومؤسساته إيجاد نوع من التوازن بين الرغبة في منع وتقييد الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء السياسي إليها وبين احترام القيم والمبادئ الحقوقية التي تنص عليها الاتفاقات الدولية، فحدث نزاعٌ بين الإطار الواقعي للأمن الداخلي والإطار الليبرالي المتعلق بحقوق الإنسان، حيث يولي الإطار الواقعي الاهتمام لمسألة التحكّم في الحدود وعلى فكرة سيادة الدولة، ووفق هذا المنظور لا يوجد تمييزٌ بين التحركات العابرة للحدود سواء أكانت في شكل هجرة غير شرعية أم لجوء سياسي، فالكل سواءٌ في كونهم مواطنين من دولةٍ ثالثةٍ يجب التحكّم على دخولهم إلى الأراضي الأوروبية، ووفق المنظور الليبرالي فالأمرعلى النقيض تماما، حيث يجب التركيز على الجانب الإنساني للأفراد، وتعلية قيمة حقوق الإنسان وبالتالي يتمحور مركز التفكير في الحفاظ على حقوق الأفراد (12).
ففي دولة مثل إيطاليا كانت سواحلها الجنوبية قبلة لأعداد هائلة من المهاجرين، فأصدرت قانونا خاصا للهجرة في مارس 1998 والذي وضعت فيه لأول مرة مواداً تخص الهجرة غير الشرعية من خلال معالجة إجراءات الدخول وتجديد إقامات الأجانب، وجسدت هذا القانون في أربع نقاطٍ رئيسية:
– إعادة برمجة سياسات الهجرة من جديد.
– النظر في شروط دخول الأجانب لإيطاليا وسبل الإقامة بها.
– تقعيد إجراءات منح الإقامة وتفعيل الإعادة القسرية للمهاجرين غير الشرعيين (13).
وفي بريطانيا اتخذت الحكومة عدداً من الإجراءات التي تهدف إلى الحد من عدد المهاجرين إليها، تمثّل أهمها في إصدار قانونٍ جديدٍ في 10 أكتوبر 2013 يضع العديد من القيود على المهاجرين واللاجئي وقد تضمّن هذا القانون العديد من البنود؛ منها أنه يمنع المقيمين بصورة غير شرعية من فتح حسابات مصرفية، ويمنح للسلطات البريطانية حقَّ تسفير المجرمين الأجانب إلى بلدانهم أولاً ثم الاستماع إلى استئنافهم لاحقاً، كما فرض القانون قيوداً جديدة على الزيجات التي قد يدخل من خلالها بعض المهاجرين من أجل الإقامة في بريطانيا (14).
وفي فرنسا صدر قانون 17 يوليو 1984 لتنظيم وتحديد الإقامات في فرنسا، ثم صدر بعد ذلك سلسلة تشريعات منها، قانون 24 أغسطس 1993 ثم أبريل 1997 وقانون نوفمبر 2003 (15) ثم ظهر بعد ذلك حديث اندماج المهاجرين المقيمين، وهذا من أكبر الدوافع التي أدت إلى إصدار قانون الدخول وإقامة الأجانب واللجوء الفرنسي لسنة 2004 وهو القانون الساري حتى الآن مع تعديلات مثيرة للجدل خاصة قانون الهجرة والإندماج المشهور والذي قام به نيكولا ساركوزي في عام 2006 (16).
ثانيا: المقاربة الأمنية:
اقتنعت الدول الأوربية مؤخراً بأن مشكلة المهاجرين أصبحت مشكلةً أمنيةً بجانب كونها مشكلةً اجتماعيةً واقتصاديةً وقانونيةً ، فشرعت في تشديد الإجراءات الأمنية على المستوى الداخلي؛ وذلك من خلال التشديد في مراقبة الحدود، وعلى المستوى الخارجي من خلال عقد اتفاقياتٍ مع دول المنشأ والعبور لمنع تدفق المهاجرين إليها.
فبعد اتفاقية شنغن، تم إنشاء وحدةٍ مشتركةٍ لإدارة الحدود بين دول الاتحاد الأوربي في أكتوبر 2004 هي المعروفة بـ ” الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون العملياتي على الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي” frontex (17) وتمثل أهم مهامات الوكالة في الآتي:
(أ) تنسيق التعاون العملي بين الدول الأعضاء في مجال إدارة الحدود الخارجية.
(ب) مساعدة الدول الأعضاء على تدريب حرس الحدود الوطنية بما في ذلك إنشاء معايير التدريب المشتركة.
(ج) إجراء تحليل المخاطر.
(د) متابعة تطوير الأبحاث ذات الصلة لتحكم ومراقبة الحدود الخارجية.
(ه) مساعدة الدول الأعضاء في الظروف التي تحتاج لتوفير المزيد المساعدة التقنية والتشغيلية عند الحدود الخارجية.
(و) تزويد الدول الأعضاء بالدعم اللازم في تنظيم عمليات الإعادة المشتركة (18).
لقد تعرضت سياسات الوكالة لانتقادات كثيرة، نظراً للفجوة الموجودة بين السياسة العامة والممارسة الواقعية، بالإضافة إلى عدم وجود نهجٍ قائمٍ على احترام الحقوق في أرض الواقع، كما نص به تقرير المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان للمهاجرين، “فرانسوا كريبو” الذي قام بدراسةٍ إقليميةٍ حول إدارة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وأثرها علـى حقـوق الإنسان للمهاجرين، ولقد عرض هذا التقرير على مجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 أبريل 2013.
وورد في التقرير أنه نادراً ما تكون لدى المهاجرين أنفسهم، وعلى وجه الخصوص المهاجرين غـير النظـاميين، القدرة على الدفاع عن الاحترام والحماية الواجبين لحقوق الإنسان الخاصة بهم، ونادراً ما يتيسر لهم الوصول إلى سبل الانتصاف وهيئات صنع القرار المستقلة، وفي معظم الأحيان، يواجه المهاجرون صعوباتٍ في الوصول إلى المعلومات، أو المحـاكم أو هيئـات التحكـيم، أو المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، أو المترجمين الـشفويين، أو بـرامج المساعدة القانونية أو القضائية، أو المنظمات غير الحكومية أو غيرها من المنظمات المجتمعية (19).
والجدير بالذكر أن الوكالة كانت ومازال هدفها الأساس هو مواجهة الهجرة غير الشرعية، ولكن الحقيقة هي أن الاختراق الحدودي فقط ليس المصدر الوحيد للهجرة غير النظامية؛ حيث أثبت “فرانسوا كريبو” في تقريره أن الأشخاص الذين يدخلون من خـلال معـابر حدوديةٍ غير مشروعةٍ سواء عن طريق البحر أو البر يشكلون نسبةً ضئيلةً إلى حد مـا مـن الأشخاص الذين يقيمون في الاتحاد الأوروبي بطريقةٍ غير مـشروعة (20).
لم يكن الاتجاه التشريعي والمقاربة الأمنية فقط كفيلتين لإدارة ملف الهجرة بين دول اتحاد الأوربي وأفريقيا، ففي نوفمبر 2015 اتفق الطرفان على صياغة “المقاربة العامة لقضايا الهجرة والتنقل” اعتبرت هذه الوثيقة الإطار العام الذي يجمع الطرفين للدخول في حوار ثنائي وإقليمي وقارّي في شأن الهجرة والمهاجرين، وتعهد الطرفان على هذه الوثيقة بأمور أهمها:
– التنظيم الأحسن للهجرة الشرعية وإدارة التنقل السليم للمهاجرين.
– أخذ احتياطاتٍ مسبقةٍ للهجرة غير الشرعية ومحاربة المعاملات القاسية.
– أولوية حماية حقوق الإنسان لمهاجرين واللاجئين (21).
وأدرك المسؤولون من كلا الطرفين مؤخراً أن مواجهة الهجرة تقتضي وضع سياسات أوسع من المقاربة التشريعية والأمنية، وأنه لابد من مراعاة الجوانب التنموية لدول المنشأ، ومن هنا بدأ ربط قضية الهجرة بالتنمية، وعقدت قممٌ ومؤتمراتٌ عدّةٍ في هذا الشأن، منها قمة 2015 حول الهجرة في مالطا، حيث عرض الاتحاد الأوروبي مساعدة بقيمة 1.8 مليار يورو للدول الأفريقية، ومنها أيضا القمة المصغرة بين بعض الدول الأوربية والأفريقية لبحث مسألة الهجرة، وانعقدت هذه القمة في شهر أغسطس الماضي في فرنسا مع قادة سبع دول بهدف التقييم وتنسيق المواقف بشأن ملف الهجرة.
انعكاسات سياسات الهجرة الأوربية على المهاجرين الأفارقة:
رغم الجهود التي يبذلها كل الأطراف مازال ملف الهجرة معضلةً شائكةً، ومازالت قوارب الموت والمعانات القاسية التي يعاني منها ثلّةٌ كثيرة من المهاجرين مستمرةً، وبكل أسف يرجع الكثير من هذه الانعكاسات السلبية التي يعاني منها المهاجرين إلى السياسات الارتجالية التي تقوم بها الدول الأوربية، وتتمثل هذه السياسات تارةً في التشريعات التي تسنها هذه الدول، وتارةً ترجع إلى المقاربات الأمنية التي تتبناها الدول المعنية بشأن الهجرة، وتنسحب هذه الانعكاسات على المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على حد سواء، وتطبق الدول جملةً من إجراءاتٍ تعتبر انتهاكاً لحقوق المهاجرين، التي تدافع عنها الغرب بنفسه، فمثلاً في إيطاليا ظهر قانون جديد للهجرة في سنة 2002 عُرف بالقانون رقم 189 أو بقانون” بوسي فيني” جاء هذا القانون صارمًا خاصة في وجه المهاجر غير الشرعي من خلال تفعيل إجراءات الحبس والطرد حيث نصت المادة ” 13 ” من هذا القانون ” بحبس الأجنبي من سنة إلى أربع سنوات الذي صدر له أمر بالطرد ولكنه ما زال موجودا على أراضي الدولة (22).
وفي فرنسا مازال التوقيف الإداري يطبق على المهاجرين، ويدير هذه مراكز التوقيف الشرطة الفرنسية، وتطبق الكثير من الأوامر بمجرد قرارات إدارية، فحسب تقرير (cimade) “اللجنة المشركية للأشخاص الذين تم إجلاؤهم” في سنة 2009 تم توقيف 35500 شخصا مهاجرا في مراكز التوقيف من بينهم 318 طفلا 80% من بينهم مادون 10 سنوات من عمرهم، كما اعتبر محكمة النقض الفرنسي أن توقيف الطفل القاصر بداية من شهرين بعد إيقاف أمه لا يدخل في المعاملة اللاإنسانية، ويتم العمل بهذا القانون حتى الآن رغم أن الرئيس فرنسوا هولاند وعد في حملته الانتخابية عام 2012 إلغاء هذا القانون، ووفقا لـ (Cimade) فإن عدد الأطفال الموقوفين في 2014 كان 45 طفلا لكنه ازداد ليصل إلى 105 في 2015.
ولأن الدول الأوربية تسيء استخدام قانون التوقيفات الإدارية لقد أصدر الاتحاد الأوربي عام 2008 تشريعاً باسم “DIRECTIVE 2008/115/CE DU PARLEMENT EUROPÉEN ET DU CONSEIL” وهي تعليمات صدرت من برلمان المجلس الأوربي للدول الأعضاء تعلقت بالمعايير والإجراءات المشتركة المطبقة على الأجانب من دولة ثالثة صاحب إقامةٍ غير شرعيةٍ، عالجت التعليمات قضية التوقيفات الإدارية، فنصت على ما يلي: ” الأجانب الموقوفين من دولة ثالثة يجب معاملتهم بإنسانية وبكرامة، واحترام حقوقهم الأساسية، وموافقا للقانون الداخلي والدولي … ويجب تطبيق التوقيف بصفة عامة في مراكز توقيف خاصة” (23).
وبسبب التركيز على تعزيز السيطرة على الحدود البحرية للاتحاد الأوروبي وتقليل أعداد المهاجرين واللاجئين القادمين عبر البحر المتوسط، ازداد عدد المهاجرين الذين يلقون حتفهم في قوارب الموت، حيث ذكرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدداً قياسياً بلغ 5000 مهاجر يُعتقد أنهم غرقوا في البحر المتوسط هذا العام بعد انقلاب قواربهم، ومخاوف من وفاة نحو 100 شخص معظمهم من غرب أفريقيا كانوا على متنها.
ومن جانب آخر يتعرض كثير من المهاجرين العالقين في دول العبور معاناة قاسية وانتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية، فقد صرح عثمان بلبيسي، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا: “بأن بعض المهاجرين العالقين في الأراضي الليبية يباعون ما بين 200 و 300 دولار ويحتجزون لمدة تتراوح بين شهرين وثلاثة أشهر”. وأضاف: “يباع المهاجرون في السوق كما لو كانوا مواد خام”. وتقوم بهذه الأعمال شبكات مختلفة ازدادت قوتهم في ليبيا مؤخرا (24)، ومن ثم تتحول جريمة الهجرة غير الشرعية إلى جريمة الاتجار بالأشخاص، فالعديد من ضحايا هذه الجريمة الأخيرة يتم استغلالهم لأغراض مختلفة بعد تعرضهم للخداع أو الاكراه أو الابتزاز، أو استغلال حاجتهم وضعفهم، فيتحول الأمر إلى جريمة الاتجار بالبشر، ووسع نطاق هذه الجريمة في دول الشمال الأفريقي باعتباره مناطق عبور المهاجرين غير الشرعيين، ويرجع كل هذا إلى الفشل الذريع للسياسات التي تقترحها الدول الأوربية على دول المنشأ في أفريقيا.
الخاتمة:
قضية الهجرة قضية إنسانية بالدرجة الأولى، ولها علاقة وطيدة بالبعد الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والأمني، إلا أن الظاهر هو أن التعامل معها تم اختزالها في جوانب معنية كالجانب القانوني والأمني فيما أهملت جوانب أخرى مهمة كالجانب التنموي، وهو ما تم استدراكه مؤخرا، إلا أن الحلول والسياسات التي تطبقها الأطراف المعنية بالقضية مازالت قاصرة وعاجزة عن احتواء القضية، وبما أن القارة الأفريقية هي القارة الأكثر تعرضا للفقر والحروب التي من أحد العوامل المؤدية للهجرة، فشعوبها من أكثر الشعوب تضررا بهذه الظاهرة، ومع ذلك فهي بعيدة عن أماكن اتخاذ القرارات في شأن المهاجرين ولم تأخذ مسؤوليتها بنفسها، بل تعتمد على المقترحات التي تأتي من الدول المستقبلة، بالإضافة إلى عدم استغلال المساعدات التي تقدم إليها إلى مشاريع تنموية تغري الشاب الإفريقي حتى يغنيك ذلك عن دخول قوارب الموت.
الإحالات والهوامش:
(1) سحر مصطفى حافظ، الهجرة غير الشرعية المفهوم الحجم والمواجهة التشريعية، ص 46
(2) بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، المكمِّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25 الدورة الخامسة والخمسون المؤرخ في 15 تشرين الثاني/نوفمبر2000 المادة 3
(3)- اجتماع خبراء الهجرة والتنمية في الاتحاد الأفريقي أبريل 2006 الجزائر
(4) Patrick Wintour, Number of migrants arriving in Italy from Libya falls by half in July, https://www.theguardian.com/world/2017/aug/11/number-of-migrants-arriving-in-italy-from-libya-falls-by-half-in-july 11 August 2017
(5) 54 dead, some 10,000 migrants rescued between Libya and Italy in 4 days, https://www.thelocal.it/20170528/54-dead-some-10000-migrants-rescued-between-libya-and-italy-in-4-days 28 May 2017
(6) Libya, Italy net 5,000 migrants in a week, https://www.timeslive.co.za/news/world/2017-09-18-libya-italy-net-5000-migrants-in-a-week/ 18 September 2017
(7) ليبيا تُرَحل عشرات المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة، http://24.ae/article/309592/ 29 10 2016
(8) Migrants in Europe, A statistical portrait of the first and second generation, Office of the European Union, 2011, p. 71
(9) Manuel MANRIQUE GIL, Mediterranean flows into Europe: ¬ Migration and the EU’s foreign policy, Policy Department, Directorate-General for External Policies, European Union, 2014, p. 7
(10) David Lessault et Cris Beauchemin, Les migrations d’Afrique subsaharienne en Europe: un essor encore limité, Population & Sociétés n° 452, janvier 2009 p. 1
(11) Le pacte europeen sur l’immigration et l’asile une impulsion pour quelle politique, Documents d’analyse et de réflexion, rue Maurice Liétart, 31/4 – B-1150 Bruxelles, Mai 2009, p 4
(12) محمد مطاوع، الاتحاد الأوروبي وقضايا الهجرة الإشكاليات الكبرى والاستراتيجيات والمستجدّات، ص 27
(13) محمد رضا التميمي، الهجرة غير القانونية من خلال التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية، مجلة دفاتر السياسة والقانون، العدد الرابع يناير 2011، ص 260
(14) محمد مطاوع، ص 24
(15) Le rapport du Haut Conseil à l’intégration, Le bilan de la politique d’intégration 2002-2005 p 9
(16) Journal officiel de la république française, LOI no 2006-911 du 24 juillet 2006 relative à l’immigration et à l’intégration
(17) Official Journal of the European Union, L 349/2, 25.11.2004
(18) Official Journal of the European Union, COUNCIL REGULATION (EC) No 2007/2004, articl 2
(19) تقرير المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان للمهاجرين، فرانسوا كريبو، دراسة إقليمية: إدارة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وأثرها علـى حقـوق الإنسان للمهاجرين، ص 14
(20) التقرير نفسه ص 8
(21) La coopération entre l’union européenne et l’Afrique en matière de migration, Bruxelles le 9 novembre 20015 p 7
(22) محمد رضا التميمي، 261
(23) DIRECTIVE 2008/115/CE DU PARLEMENT EUROPÉEN ET DU CONSEIL du 16 décembre 2008 relative aux normes et procédures communes applicables dans les États membres au retour des ressortissants de pays tiers en séjour irrégulier arcl 17
(24) En Libye, des migrants vendus sur des « marchés aux esclaves »
http://www.lemonde.fr/afrique/article/2017/04/12/en-libye-des-migrants-vendus-sur-des-marches-aux-esclaves_5110019_3212.html#fcHjoShGYPQR6D6z.99 13.04.2017