من كتاب دراســـــــات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي للكاتب موسى الزعبي
شهد الوطن العربي ويشهد العديد من التوترات والنزاعات، أثرت كثيراً على تكامله وعلى محاولات توحيده. وكان آخرها عاصفة الصحراء الأمريكية وحلفائها، التي شكلت التعبير الدقيق عن تلاطم وتناقض مصالح دول الاستعمار الغربي، عموماً، والولايات المتحدة، خصوصاً، مع مصالح وأهداف الأمة العربية، وشعوبها المختلفة، كما أصبحت المسألة الشرق أوسطية، التعبير الأكثر في الإشكاليات السياسية جدلاً على الساحة العربية في الآونة الأخيرة. كما أدى توقيع اتفاقيات كامب دافيد وعزل مصر العربية، وما تلا ذلك من إعلان مبادئ غزة – أريحا أولاً عام (1993) إلى تصاعد الحديث والجدل عن الترتيبات القادمة التي تضع في مقدمتها ضم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة كقائد مهيمن، رغم وجود بعض الدول العربية خارج نطاق تلك التسوية السياسية مع ذلك الكيان الصهيوني. كما شكل مؤتمر مدريد ضربة قاضية إلى تطلعات الجماهير العربية في التحرير والوحدة، حيث جاء بعد تدمير العراق كعلامة بارزة إلى مستقبل المنطقة العربية، خاصة في مجال تمزيقها لكيانات مستقلة عن بعضها وعزل بعضها البعض.
ولابد من الانطلاق بدءاً ذي بدء من تسليط الأضواء على أهمية المنطقة، في المجالين، الموقع، وهبة السماء من النفط. وهي أحد الأسباب التي تفسر التكالب الشرس المتوحش بين الشركات متعددة الجنسية التي تنفذ سياستها الدول صاحبة العلاقة.
كما يفسر أيضاً النزاعات المستمرة بين دويلات ومشيخات المنطقة بسبب خلافات الحدود المزعومة، والتي رسمت أيضاً من قبل قوى الهيمنة، عمداً، لاستمرار الخلافات، وبالتالي النزاعات عوضاً عن أن تكون سبباً داعياً للاتحاد أو الوحدة بين تلك الشعوب الواحدة. حتى أخذ بعض الحكام يبحثون عن الأمن والاستقرار المزيف بطلب الدعم وتواجد القوات تلك التي ساهمت في يوم من الأيام بالتسبب بخلق هذه النزاعات، إلى أن وصل الأمر إلى تحقيق أهداف وأطماع تلك القوى بالهيمنة المكشوفة مع دفع نفقاتها وتكاليفها. وهكذا تحقق المزيد من هيمنة الاحتكارات الامبريالية، إلى درجة أن وضع بعض الحكام أنفسهم تحت إمرة قوى الهيمنة، وكأن جهنم أصبحت ملاذهم الآمن، وتناسوا أن ما أصاب أمتنا من كوارث، بدءاً من تقسيمنا إلى دول وتداخل في الحدود المصطنعة، وإثارة النزاعات وصب الزيت على نار، يرجع إلى قوى الهيمنة والتي تبادلت الأدوار والمهمات.
ولنلقي الضوء على بعض من خطط الدول الاستعمارية على منطقتنا العربية، باختصار شديد: فقد ارتبط ظهور وانتشار مفهوم عبارة الشرق الأوسط بالفكر الاستراتيجي البريطاني، فقد كتب فالنتاين شيرول، مراسل الشؤون الخارجية في جريدة التايمز، سلسلة من المقالات، بعنوان المسألة الشرق أوسطية، خلال الفترة، من تشرين الأول عام (1902) إلى نيسان عام (1903). ثم جمعها في كتاب صدر عام (1903) بعنوان: “الدفاع عن الهند”. ثم صدر في لندن كتاب، بعنوان “مشاكل الشرق الأوسط” لمؤلفه ريتشارد هاملتون. ثم أشار اللورد كيرزون، حاكم الهند آنذاك، ممثل المملكة البريطانية العظمى، في حديث عن الشرق الأول، كمدخل للهند وذلك في عام (1911).
ثم بدأت دلالة المفهوم تتعثر، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى مع استخدامه للتعبير عن جزء من المنطقة الجغرافية، التي يشملها الشرق الأدنى.
وأنشأ تشرشل وزير المستعمرات البريطاني آنذاك، إدارة سماها إدارة الشرق الأوسط في وزارته، في آذار عام (1921)، وذلك للإشراف على شؤون فلسطين وشرقي الأردن والعراق، وتأكد هذا المفهوم مع قيام بريطانيا بإنشاء مركز تموين أطلقت عليه اسم مركز تموين الشرق الأوسط، للإشراف على منطقة غير محدودة، تتسع وتضيق، طبقاً لتطورات الحرب العالمية الثانية، وذلك بدءاً من عام (1940). ونجح المركز في تحقيق أغراضه المتمثلة في ضمان وتنظيم وصول إمدادات السلع الأساسية إلى المنطقة، وتوفير المواد اللازمة لقوات الحلفاء أثناء الحرب. ولم ينتج هذا النجاح من فعالية أجهزة التخطيط والرقابة التابعة للمركز فقط، الذي أصبح مقره القاهرة، لكنه نتج عن وجود إدارة سياسية بريطانية فعالة.
وهنا أيضاً، لابد من استعراض سريع لاهتمامات منظري السياسات الامبريالية في منطقة الخليج العربي، بالرجوع إلى بعض ما كتبوه، لخدمة مصالح دولهم. فقد كتب (رايموند أوشي) في كتابه، (ملوك الرمال في عُمان) (أنه يرى أن للخليج أهمية استراتيجية بالنسبة لبريطانيا، فهو شريان الحياة الرئيس بالنسبة لنا، وقد أكد اكتشاف، وتقدم الطيران، هذه الحقيقة، وسيظل الخليج العربي، يسيطر على استراتيجيتنا سنين طويلة. فهو يتوسط جميع خطوطنا البحرية والجوية الرئيسة إلى الشرق. ويحوي الموانيء والمراكز البحرية ومحطات الوقود اللازمة لأساطيلنا وبواخرنا وطائراتنا. والدول التي تستولي على الخليج، وعلى ساحل عمان، تستطيع أن تتحكم في جزيرة العرب والعراق وإيران وأفريقيا. وتستطيع أن تغلق قناة السويس، وأن تقطع خطوط المواصلات الجوية والبحرية إلى الهند وأفريقيا، وإذا قامت في الخليج دولة معادية، فإنها تستطيع أن تدق المسمار الأخير في نعش النفوذ البريطاني، بجنوب البحر الأبيض المتوسط.
هذا مثال عما يفكر به منظرو الاستراتيجيات الاستعمارية البريطانية، أما الأمثلة الأحدث، عن منظري الاستراتيجية الامبريالية الأمريكية فهي أعمق وأشد وضوحاً. إذ يقول (ديفيد نيوسوم) وهو أحد وكلاء وزارة خارجية الولايات المتحدة الأمريكيين السابقين: “إذا كان العالم دائرة مسطحة، وكان المرء يبحث عن مركزها، فيمكن إعطاء ذريعة جيدة مفادها: إن هذا المركز هو في الخليج العربي –الفارسي، سواء من جانبه العربي، أو الفارسي، حسبما تنظر إليه”، ويضيف ما من منطقة هي بمثل هذه الأهمية الأساسية لاستقرار العالم الغربي وسلامته الاقتصادية”.
وازدادت أهمية الخليج بعد الاكتشافات النفطية والتنافس الحاد بين الدول الامبريالية عليه. فوضعت بعض دول الهيمنة خاصة الولايات المتحدة، الخطط لتشدد من قبضتها على المنطقة، بالتعاون مع بعض الحكام فيها، تحت ذرائع مختلفة، في حين استهدف التخطيط الامبريالي، عزل المنطقة عن محيطها العربي، وحاولت أن لا تبرز قوة إقليمية تخل بالتوازن الذي رسمته. ثم دشنت الامبريالية الأمريكية مرحلة جديدة، بعد حرب الخليج الثانية، بطرح مشاريع ما سمته بالأمن، لمنع أو إعاقة بروز أية قوة يمكن أن تخرج عن إدارة وتصميم ما خططت له واشنطن.
وهنا من الجدير بالملاحظة أن نذكر بعض ما اصطلح عليه من قبل الغرب بهدف عزل الشعوب العربية عن بعضها، فأطلقوا اصطلاح الشرق الأوسط، على بعض مناطق الوطن العربي، كما أطلقوا اسم شمالي أفريقيا أيضاً، فهناك مثلاً، قاموس وبستر الشهير للقرن العشرين، الذي يعرف الشرق الأوسط، بأنه المنطقة الجغرافية التي تشمل العراق وإيران وأفغانستان، وفي بعض الأحيان، الهند والتيبت وبورما. ويضيف القاموس معنى آخر، بأنه الشرق الأدنى، باستثناء بلاد البلقان. ويحدد البلدان الواقعة بالقرب من الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أو الشرق منه، متضمناً جنوب –غربيّ آسيا “:تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، شرقي الأردن، المملكة السعودية”.
وهكذا، إذا أخذنا بمصطلح الشرق الأوسط، فإنه لا يشمل من البلدان العربية، سوى العراق. أما إذا أخذ بمصطلح الشرق الأدنى، فهو يشمل تركيا، ويستثني مصر والعراق، وهذا يؤدي إلى عدة دلالات:
1- لا يتوجه هذا المفهوم نحو منطقة جغرافية محددة، فهو مصطلح سياسي في نشأته، واستراتيجي من حيث خدمة قوى خارجية، فالشرق الموصوف بالشرق الأوسط، يطرح التساؤل عن ماهية المرجعية التي على أساسها وُصِف بهذه التسمية.
2- يمزق هذا المفهوم أوصال الوطن العربي، ولا يعامله كونه وحدة متميزة، بل يُدْخِلُ ضمن تعريف الشرق الأوسط بلداناً غير عربية. وهذا ما يجعل البلدان العربية مجرد جزء من منطقة فسيفساء وموازييك، تضم خليطاً غير متجانس من القوميات والشعوب والأديان، والهدف غير المعلن هو تحطيم الأساس الحضاري والثقافي للوحدة العربية.
3- إن هذا المفهوم، يستهدف تبرير شرعية وجود الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، بإدراجه الدول العربية ضمن منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، وليس الوطن العربي.
ويقود ذلك للقول، بأن الهدف الأمريكي –الكيان الصهيوني ليس إنشاء نادٍ يضم الجميع في الشرق الأوسط، وإنما تحديد إطار مرجعي للتعاون يكون شرق أوسطياً مرناً ومفتوحاً، وينسحب من ذلك، إنشاء أنساق إقليمية وظيفية، مما يعني بدوره بلورة مجموعة من القواعد والمعايير والأنماط للتعاون في ضوء كل جزئية محددة، أو المضي خطوة إلى الأمام في حالات أخرى لإنشاء مؤسسات إقليمية جديدة، وفي الحالتين يقوم التعريف الإقليمي على المعيار الاختصاصي والمصلحي، وليس الجغرافي الضيق، بحيث يضم دولاً من خارج المنطقة الجغرافية، دون أن يضم جميع دول هذه المنطقة بالضرورة.
وهناك عدة محاور تحكم الرؤيا الأمريكية للمسألة الشرق أوسطية:
آ-لا يحقق النفوذ الأمريكي المتزايد، بعد حرب الخليج الثانية عام (1991) وما ترتب عليها من علاقات متميزة مع الكيان الصهيوني، ومحاولة ربطه اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً مع بعض دول المنطقة أو كلها لا يحقق بأوضاعه الحاضرة الاستقرار المطلوب لهذا النفوذ. إذ توجد عناصر أساسية في المنطقة، تشكل مصادر للأزمات “حسب المفهوم الأمريكي”، وفي مقدمتها العراق، ثم إيران، ضمن مدىً، في منطقة الخليج العربي/ الفارسي. ثم هناك المسألة الفلسطينية وتوابعها، وما يترتب عن عدم الوصول إلى حل من سلبيات على أهداف الولايات المتحدة، خاصة تصاعد ما تسميه أجهزة المخابرات الأمريكية بـ “الإرهاب والعنف”.
لذلك، يؤدي إحداث تحريك في القضية الأساسية كإعلان المبادئ بالطريقة الأمريكية، والاتفاقيات المنفردة. المشابهة لكامب دافيد… الخ والمؤتمرات تحت مسميات مختلفة كالاقتصادية والمياه… تقود إلى تقوية النفوذ الأمريكي والصهيوني، وكأن الأمر يتعلق باقتصاد ورفع مستوى المعيشة وليس بحقوق مغتصبة وكرامات مهدورة، مما يساهم في تشجيع واشنطن على بلورة مفهوم الاندماج الإقليمي كهدف استراتيجي، بغية الانتقال إلى هوية تعاونية بين الحكام العرب والكيان الصهيوني.
ب-تقسيم الوطن العربي إلى مناطق إقليمية كمجلس التعاون الخليجي.. الخ كما جرى في السابق، في محاولات القوى الاستعمارية القديمة لإبعاد منطقة الخليج عن محيطها العربي، وإشعار شيوخ المنطقة أن الخطر يأتي إليهم من بعض الدول العربية، وليس من قبل تواجد القوات الأمريكية الغازية، ولا حتى من خطر الكيان الصهيوني الغاصب، وبالتالي إبعاد تلك المشيخات والممالك النفطية عن الاتصال بالوطن العربي. فعلى سبيل المثال، تتبع الولايات المتحدة، ما جرى في الحقبة الاستعمارية لمنطقة الخليج العربي، عندما جرى إغلاق المنطقة في وجه الخبرات العربية، واستبدالها بخبرات وحتى بجيوش أمريكية، وكما جرى إلحاقها إدارياً بالمستعمرة البريطانية في الهند سابقاً، حيث كانت شؤون الخليج تدار من قبل حكام بومباي البريطانيين، بدلاً من مستعمراتها العربية كمصر أو العراق، وركزت مخططها على ربط المنطقة من الكويت إلى عدن بالهند، وعزلها عن محيطها العربي، وإغراق المدن الرئيسة بالجاليات الآسيوية وغيرها، وسارت من بعد ذلك، الشركات النفطية على هدي السياسة البريطانية الاستعمارية، ويجري تطبيق ذلك اليوم في منطقة ما يسمى بمجلس التعاون الخليجي في كثير من أموره خاصة في مجال ما يسمى بالأمن والاقتصاد بالاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، ففي حين كانت الشركات النفطية تعتمد على الخبرات والكفاءات الهندية والآسيوية الأخرى، ووضعت العديد من القيود والحواجز أمام الكفاءات العربية، وكان الهدف خلق مجتمعات موزاييك في تركيبتها السكانية، يبهت من خلالها الطابع القومي العربي، وتتعدد الجنسيات، وبحيث تصبح ممزقة النسيج الاجتماعي من جهة ثم يزداد تدخل الدول المختلفة في الشؤون الداخلية للمنطقة بحجة الدفاع عن مواطنيها. تماماً كما يجري اليوم، حيث تسير الأمور بطرق أشد خطراً في الشكل والمضمون تحت إشراف الولايات المتحدة المباشرة، حيث تسعى واشنطن في الظروف الراهنة إلى تخويف حكام منطقة الخليج من الغول العربي، وليس من الشيطان الأمريكي والصهيوني، وأخذت تستخدم ورقة حقوق العمال الأجانب بالإضافة إلى ورقة حقوق الإنسان، باستثناء حقوق الشعب الفلسطيني، تلك الورقة، حقوق الإنسان، التي تمارسها واشنطن أنّى شاءت وحيث تشاء مصالحها الجشعة، مع ذلك، يمكن القول، هناك طرفان أساسيان يديران مثل هذه المخططات، ولهما مصلحة مؤقتة في تعويم الهوية القومية، حتى لا يكون هناك تجانس اجتماعي قادر على الفعل السياسي، وهذان الطرفان، هما الدولة المهيمنة، صاحبة الحضور العسكري والسياسي الراجح في المنطقة، أعني الولايات المتحدة، والأسر الحاكمة من الملوك والأمراء والشيوخ، وستكون نتائج إغراق المنطقة بالعمالة الأجنبية على المنطقة:
1ً- قتل الهوية القومية العربية في منطقة الخليج العربي، حيث يتم خلط الجنسيات والثقافات والأصول العرقية، بطريقة تتغلب فيها القوميات المختلطة على القومية العربية، وبالتالي جعل الإمارة أو المشيخة أو المملكة، شركات مساهمة وليست “وطناً”.
2ً- تفتيت قوة العمل على أساس الانتماء القومي، خاصة وأن الغالبية الساحقة من قوة العمل الأجنبية مؤقتة، حيث شهدت المنطقة تدفقاً كبيراً للعمالة الأجنبية، وانعكست بوضوح على التركيبة السكانية، التي باتت غير متجانسة، وأصبحت عاجزة بالتالي عن الفعل للرد على خطط التدمير السياسي والاجتماعي التي مارستها وتمارسها الدوائر الأجنبية والمحلية على حد سواء، أو بعضها.
3- خلق مراكز قوى داخل المجتمع، تبعده تدريجياً عن عمقه القومي، وتخلق له سمات خاصة تتولد عبر تفاعل بطيء يُعبَّر عن المنعطفات الحادة، كما جرى في أزمة الخليج الأخيرة، بحيث يبدو وكأن لهذه المجتمعات سماتها القومية الخاصة المصطدمة ومصالح الأمة، وبالتالي ترى في الابتعاد عن الأمة مصلحة قومية لها.
4- زرع عناصر في مختلف أجهزة الدولة والمؤسسات ومواقع القرار على أن تكون مرتبطة بالدوائر الأجنبية، كالخبراء والمدربين… الخ
ويمثل ذلك بالأعداد الكبيرة للأجانب في أجهزة الجيش وقوى الأمن باسم خبراء، وسوى ذلك، كما أشارت عدة تقارير إلى مخابرات الكيان الصهيوني قد نجحت في تجنيد الآلاف من مواطني الدول الآسيوية وغيرها للعمل وسط بيوت كبار المسؤولين. كما تجدر الإشارة إلى وجود عشرات الآلاف من الأمريكيين والأوربيين العاملين في الأجهزة العسكرية والإدارات الحساسة في مختلف القطاعات.
أما بالنسبة للأسر الحاكمة فإنها ترى لها مصلحة في ذلك من النواحي التالية:
1ً- تسوير إقطاعاتها عن العمق القومي العربي، خاصة بعد الاكتشافات النفطية الكبيرة، وبالتالي الحفاظ على الامتيازات الأسطورية، التي نجمت عن العائدات النفطية والتصرف بهذه الثروة الوطنية والقومية كملكية خاصة لهذه الأُسَر بعيداً عن مصلحة الشعب والأمة، بل على الضد من هذه المصلحة، ومواجهة الدعوات التي ترى بأن الخليج وثروته وأهله جزء من الوطن العربي وثروته وأمنه، وأمنها.
2ً- تعميق النزعة القطرية من خلال تصنيف فريد من نوعه في إعطاء الجنسيات ويتم تصنيف المواطنين إلى درجات: أولى وثانية وثالثة وبدون جنسية، وتوزيع فئات المائدة النفطية على المواطنين الذي وجدوا أن المواطنة، امتياز، يمكنهم أن يمارسوا من خلالها كافة الأعمال الطفيلية، بينما يمارس العمال الوافدون القسم الأكبر من الفعاليات الإنتاجية والخدمات.
3ً- تدمير النسيج الاجتماعي المحلي، وتشتيت القوى الاجتماعية، وتعويم القوى المحلية، في بحر من الموازييك البشري، بحيث يصعب على القوى التقدمية والقومية، الاعتماد على قوى اجتماعية متجانسة للنضال من أجل التغيير. ففي دولة الإمارات مثلاً، بلغت نسبة الأجانب في أبو ظبي 85% عام 1980، وفي دبي 77%، ويشكل وجود هذه الأعداد من العمالة الأجنبية، ذريعة للسلطة السياسية، لعدم قيام مشاركة سياسية وعدم وجود برلمان.
كما أن وجود أعداد هائلة من الأجانب في مواقع القرار الاقتصادي والعسكري والسياسي، وتشجيع هذا الاتجاه، من قبل قوى الهيمنة، مريح للأسر الحاكمة، التي تسعى لمواصلة السير في الطريق القديم! الاحتكار الكامل للسلطة، وعدم السماح للمواطنين بالمشاركة السياسية، ولا تتردد هذه الأنظمة عن طرد بعض المواطنين، وطرد بعض العرب، وجلب أعداد متزايدة من الأجانب لتستمر السلطات باحتكار كل شيء بيد الأسر الحاكمة، ولتستمر الشركات القريبة في نهب ثروات البلاد، ويستمر الملايين من العاملين مهددين بالطرد إن أبدوا أي تذمر من أوضاعهم المزرية واللا إنسانية.
4ً- وقد ثبت أنه عندما تتصاعد لهجة التأييد للقضايا القومية، وتوجيه النقد لقوى الهيمنة، كلما زادت الإجراءات القمعية وأعمال الطرد وبالتالي زيادة الرصد على أي تحرك نضالي للمعارضة الوطنية علماً أنه يمنع كل تأطير نقابي من كل نوع. كما يجري الوقوف في وجه أي تفاعل عربي يسهم فيه المواطنون العرب والوافدون خاصة من عرب فلسطين.
وبهذا، ساهمت تلك الأنظمة وتساهم في إسقاط التحديات التي كانت تواجه شرعية وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، خاصة بعد كامب دافيد عام
(1979). وكان مؤتمر مدريد بتاريخ 30/10/1991، بعد تدمير العراق، ومشاركة بعض الأنظمة العربية، المؤشر الجماعي الأول، إلى القبول العربي بهذا الوجود. وقد عملت استراتيجية الكيان الصهيوني، منذ عام
(1948) على أن يكون التعاون الإقليمي مع دويلات المنطقة ودولها، هدفاً رئيساً يحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني له. وتوضح متابعة البحوث والدراسات منذ خمسينيات (1950) أن جميع محاولات التسوية، كانت ترتكز على أسس التعاون الاقتصادي وفتح الحدود وإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية.
5ً- ثم جاءت صيغة مدريد لتؤكد ما حدث عام (1991) التي قضت إلى تدمير العراق، وبالتالي الترويج للشرق الأوسطية، ثم الربط بين تلك الدعائم الأمريكية والرؤيا الصهيونية، كل ذلك ليؤدي إلى القول بوجود توافق مصلحي نحو شرق أوسط جديد يكون للكيان الصهيوني، دور متميز في إطار تحريك عمليات التسوية على كافة الصعد، خاصة بعد انتهاء التجاذب الأمريكي “والغرب عامة” مع الاتحاد السوفياتي السابق، وحل محله نوع من التفاهم الذي بدأ عام (1989) موعد انسحاب السوفيات من أفغانستان، والذي اعتبره المحللون انسحاب من الشرق الأوسط بأكمله.
وتتضح ملامح المشروع الشرق أوسطي من الوثيقة التي أعدتها وكالة التنمية الدولية الأمريكية في ثمانينات (1980)، تحت عنوان “دور التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط”. وقدمتها إلى الكونجرس وشاركت في إعدادها ثمان وزارات وعشرة مراكز بحوث في مقدمتها الأكاديمية الأمريكية للعلوم. وأكدت الوثيقة على أهمية العمل لبناء تعاون إقليمي فيما يسمى بالشرق الأوسط، يقوم على مُرْتَكزَيْن، جغرافي واقتصادي، كبديل عن التعاون الإقليمي المبني على أساس قومي عربي سياسي “القومية العربية”. ويشتمل ما سبق على اعتراف العرب بالكيان الصهيوني، وإدماجه بالنظام الإقليمي للمنطقة. كما تتجه الوثيقة. من ناحية البعد الجغرافي على قيام بنية إقليمية تضم دول المشرق العربي، بجانب الكيان الصهيوني وتركيا. وتحدثت الوثيقة عن الأساس الاقتصادي وكيفية تحقيق التعاون المنشود عبر ثلاث مراحل:
آ – تطوير مصادر المياه بصفة أساسية، في المرحلة متوسطة الأجل، من خلال مشروعات مختلفة، مثل البحر الميت، خليج العقبة، نهر الأردن، الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، شبه جزيرة سيناء.
ب – أما في المرحلة، طويلة الأجل، يتم تجاوز البنيات الأساسية المتعارضة والمشكلات التي تعرقل العلاقات، مثل الصراع العربي الصهيوني، من خلال التنمية الاقتصادية، وفتح الأسواق المحلية أمام المنتجات الصهيونية.
ولقد أعطت الولايات المتحدة أهمية كبيرة لتدشين نظام إقليمي جديد للمنطقة، يتوافق مع التغييرات الحاصلة في المنظومة الدولية، والتي اكتسبت واشنطن وضعية القطب الأوحد، في المجالين السياسي والعسكري، في نطاق السعي الأمريكي لإقامة النظام الدولي الجديد.
ويشير “وليام كوانت” أحد أشهر خبراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أن بلاده تريد السلام في صورة نظام جديد في الشرق الأوسط، ليس فقط يستهدف منع الحروب، ولكن في إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام الشرق أوسطي، حيث ينبغي استبدال النظام العربي الذي قام على استبعاد تركيا والكيان الصهيوني، بنظام إقليمي للشرق الأوسط المتجانس، يؤدي إلى قيام اقتصاديات، على أساس سوق مفتوحة، ونظم سياسية ديموقراطية منفتحة على الكيان الصهيوني والغرب عموماً.
ويتوضح دور اتفاق أوسلو، في فتح المنطقة لآفاق رحبة أكثر، في تقرير أمريكي أعدته جامعة هارفارد في حزيران (1993)، حيث جاء فيه: “إن المطلوب عمله على الصعيد الفلسطيني –الكيان الصهيوني، هو إحداث طلاق سياسي وزواج اقتصادي. وتتعدى وظيفة المفاوضات، هدف تسوية الصراع، لتصل إلى إحداث تغييرات في أنماط العلاقات وقواعد التعامل، وبلورة قيم سياسية جديدة في الإطار الإقليمي، وفي الحقيقة، فإن مؤتمر مدريد، وقبله كامب دافيد عام (1979)، ومن بعد كل ذلك اتفاق أوسلو، وما سيلي ذلك، تُشكل جميعها عملية إطلاق بناء نظام إقليمي جديد، يشبه ما حدث في مؤتمري فيينا وفرساي، بعد الحرب العالمية الأولى، لتكون هذه الصيغة بعض الأرض، مقابل الاندماج الإقليمي، وليس كل الأرض مقابل السلام، واتضح الأمر بصورة أكبر في قمة الدار البيضاء الاقتصادية عام (1994) وما تلا ذلك من قمم أخرى، مع أن أوسلو الاقتصادية دشنت النظام الشرق أوسطي الجديد، لتحقيق ثلاثة أهداف أمريكية، حسب “دان كيرتز” مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون ما يسمى بالشرق الأوسط:
آ-إسقاط الحواجز النفسية بين العرب وسكان الكيان الصهيوني.
ب-إطلاق نشاطات فعلية في سائر مجالات التعاون الإقليمي.
ج-الاتجاه نحو إقامة مؤسسات إقليمية كوسيلة لدفع عملية المصالحة التاريخية بين العرب وسكان الكيان الصهيوني.
وحتى تتحول الخريطة الجيوسياسية الجديدة إلى ما يسمى بالشرق الأوسط لابد من التأكيد على دور الكيان الصهيوني كحليف استراتيجي دائم للولايات المتحدة، والتعهد بالمحافظة على تفوق ذلك الكيان النوعي، لهذا، لن تُطبق عليه تدابير نزع الأسلحة وحظر تصديرها. وعلى الرغم من أن القيمة الاستراتيجية للكيان الصهيوني قد انخفضت نسبياً، بعد انتهاء الحرب الباردة السابقة، وأدت إلى انتفاء الصراع الثنائي المؤقت أيضاً، في الشرق الأوسط. لكنها عززت الحاجة للوجود الأجنبي في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية. مع ذلك، لا يزال الكيان الصهيوني يحتفظ بأهمية بارزة لدى الولايات المتحدة عموماً. فهو حليف استراتيجي لواشنطن وحليف سياسي ذو مناعة مؤسساتية مستقرة، كما يساهم في تطوير الترسانة العسكرية التقنية للولايات المتحدة. ولهذا فقد تقرر أن يشترك ذلك الكيان في هذه المجموعة الشرق أوسطية، ولعله يصبح في قلب المنطقة، وبدت عدت مؤشرات لذلك:
1ً-استبعاد جامعة الدول العربية وبعض الدول العربية، واستبعاد أي معيار عربي للمواقف الجماعية من عملية التسوية السياسية في مؤتمر مدريد، والمفاوضات متعددة الأطراف.
2ً-وجوب التركيز على النظرة الضيقة لما يسمى بالشرق الأوسط، وفك الارتباط العضوي بين القلب المتمثل بالمنطقة الممتدة من الساحل العربي للخليج العربي، حتى الحوض الشرقي للمتوسط، وبين الأطراف التي كانت تمتد شرقاً حتى الباكستان، وغرباً حتى المغرب، وجنوباً حتى الصومال. وهنا يتم إلغاء فكرة إيزنهاور التي ظهرت عام (1957)، القائلة بضم دول القرن الأفريقي، والتركيز على الوطن العربي والكيان الصهيوني وتركيا وإيران.
3ً-أهمية استبعاد العراق، حتى يتغير نظامه الراديكالي، ويعاد ضبط الأمور بطريقة ما على هذه التركيبة السياسية التي تشكل القلب لما يسمى بالشرق الأوسط، وعلى هذا الأساس، جرى ضم تركيا إلى المنظومة الجديدة، التي تُشكّلُ على أساس جغرافي –اقتصادي، وليس على أسس قومية، تاريخية وتركيا مُستأنَسَة لدى الغرب بطبيعة الحال، ويبقى الكيان الصهيوني قائداً.
ومن هنا، ركز اللقاء بين كلنتون ورابين في تشرين الثاني (1993) بالبيت الأبيض بواشنطن، على هذا الفهم الجديد لما يسمى بالشرق الأوسط والدور المؤسس للكيان الصهيوني فيه. وكان من نتائج هذا التوصل، تحريك عملية التسوية، ودفع إعلان المبادئ غزة –أريحا أولاً، خطوات إلى الأمام، ومن المُتصَّوّر أن الجانب الفلسطيني تجاوب مع المفاوض الصهيوني وقدم له رؤيتية السياسية في دعم المنظور الاستراتيجي لما يسمى بالشرق الأوسط. ولقد ترافق هذا المخطط أيضاً واستكمل، بتواجد القوات الأمريكية على مجمل دول الخليج ودويلاتها، وأصبحت قادرة على فرض، حتى باستخدام القوة العسكرية، أو عبر شركاتها، وعشرات الألوف من الخبراء الذين ينتشرون في مفاصل القطاعات الهامة، وهي ليست بحاجة إلى الاستيطان المكثف، لأن هذه الدوائر تقوم بعمليات تشتيت وتدمير النسيج الاجتماعي، وإضعاف تركيبته الطبقية القومية، من حيث ترسم خطط التهجير والعمالة الأجنبية، وتستخدم مختلف الوسائل لتحقيق غاياتها من منطلقات استراتيجية واقتصادية، بحيث يبقى الخليج بمجمله مجتمعاً بشرياً غير متجانس وغير قادر على رسم مستقبله القومي.
ولقد تفاقمت الإشكالية السكانية، منظوراً إليها من زاوية الصراع على المنطقة، ومن زاوية الأمن الوطني والقومي، بعد أزمة الخليج الثانية، فقد عمدت إمارات الخليج ودولها إلى طرد مئات الآلاف من العرب، العاملين فيها، بحجة موقف حكوماتهم، وكأنهم سلع يباعون ويشترون، ولقد شكلت هذه الأعمال سابقات تاريخية خطيرة، أكدت على توجه هذه الأنظمة نحو الاعتماد على الأجنبي سواء في العمالة أم في العسكر، كما أكدت على استخفاف الحكومات العربية المتعاملة مع هذه الدول بكل القوانين والأعراف والقيم القومية والإنسانية، حيث تصرفت بالبشر وكأنهم أشياء يمكن رميهم أو جلبهم حسب مشيئة هؤلاء الحكام.
وهنا تقتضي المقارنة مع ما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وخطط تهجير اليهود من كل أطراف العالم، لتوطينهم وتجنيسهم الفوري، حيث تنظر الحركة الصهيونية إلى الاستيطان والتجنيس كقضية حياة أو موت بالنسبة لمشروعها العدواني، في حين ترفض بعض الدويلات العربية، النفطية خاصة، توطين بعض العرب القادمين إليها، خوفاً من المشاركة في فتات موائدهم العامرة، بل وتغذي النزعات الضيقة لدى المواطن ليزداد إقليمية وابتعاداً عن عمقه القومي.
لقد تمكنت الولايات المتحدة، عبر شركاتها النفطية، وكذلك شركات صناعة الأسلحة العملاقة، وذات الخبرات العالمية من السيطرة على نفط منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، وكذلك على تجارة الأسلحة فيها، وأن تصبح الولايات المتحدة صاحبة الكلمة المسموعة، خاصة بعد حرب الخليج الثانية، ويرى بعض الخبراء أن السيطرة الأمريكية على تلك المنطقة تعتبر من أوليات الاستراتيجية الأمريكية واهتماماتها العالمية، ويتوافق ذلك مع مساعيها لتمكين الكيان الصهيوني من تعميق جذوره في المنطقة العربية، على المستويات المختلفة، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية… الخ. ولعل أوضح ظاهرة تؤكد ذلك، ما طرحه شمعون بيرز، من أن السلم يقضي باستبدال حالة العداء بين شعبين يتنازعان على الأرض نفسها، بعملية تجارية، تشتمل كل ما يسمى بالشرق الأوسط، وتزول كل العداءات التاريخية، بل يصل الأمر إلى “غرام” فلسطيني –صهيوني خاص، يتجاوز الرابطة العربية…
ويطرح شمعون بيرز مشروعية الانتماء إلى الجغرافية الجديدة التي يرسمها ذلك، بناء على فشل الحروب في تحقيق كسب استراتيجي عام لما يقدمه الوضع الدولي الجديد من رؤية سياسية في حل النزاعات، ووفق التكوين الاقتصادي والاجتماعي –السياسي الذي يعرفه، فإن هناك بنية فوق قومية حسب تعريفه، يجب أن تظهر وتقدر على حل جميع المشاكل، بناء على وجود ما يسمى بالشرق الأوسط بكافة إمكاناته، ويرى بيرز أن الاستثمارات الدولية، هي وحدها، القادرة على انتشال الواقع الاقتصادي العام وحل المشاكل المستقبلية، مثل أزمة المياه، والتضخم السكاني. وإذا كان المستقبل لا يمكن بناؤه على رؤية الماضي وحده، فإن بيرز يطرح عدة نقاط هامة، لما يسميه بالشرق الأوسط الجديد.
آ- مفهوم الواقع الديموغرافي، وهو أمر بالغ الحساسية، ولقد أدى في الضفة والقطاع لنشوء تناقض مع الواقع الدولي العام، ومع عملية التسوية. ولقد أدى استمرار الممارسات الصهيونية القمعية ضد المواطنين الفلسطينيين، بشكل يعاكس النتيجة التاريخية للصراع، وتحكم هذا الواقع في إعلان المبادئ، أدى ذلك، إلى استناد الحكم الذاتي على الضغط السكاني وقلة الوجود اليهودي في محيط أريحا.
ب- المفهوم الجديد للجغرافيا، التي غابت عنه مقولة شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب. ويقول شمعون بيريز في هذا الإطار، بأن الأرض، ليست هي المشكلة التي يتعين أن نتعاطف معها، بل المشكلة هي علاقتنا المقبلة مع سكانها. ويبدو للوهلة الأولى، أن الهم التاريخي للأرض، ينحسر في التراث الصهيوني، لكنه يتطور في الواقع، بشكل جديد، حيث يمكن للحدود الجغرافية الغائبة عن دستور الكيان الصهيوني أن تحدد وفق التاريخ.
ج- المفهوم الأمني مترابط مع الشكل المقترح لما يسمى بالشرق الأوسط عملياً، والمتضمن حالة فوق قومية، تحيل العلاقات نحو تفهّم لطبيعة الإقليم، وهنا يغيب العمق الأمني، أو البعد الاستراتيجي لمقولة الأمن والاستيطان التي أسس عليها الصهاينة كيانهم في فلسطين المحتلة. فهما لا يتعلقان بالحدود الجغرافية. بل يمكن أن يعيش الجميع تحت سلطة نظام إقليمي. وبالطبع، أتاح تغير النظرة للأمن، تطبيقاً لإعلان المبادئ، وهي قد تتيح وجود مستوطنات داخل حدود الغير، مستقبلاً، أو حتى وجود صهيوني فاعل، داخل دول ما يسمى بدول الطوق، يوازي التشكيلات الفلسطينية الحالية داخل السياسة الصهيونية.
ويرى شمعون بيرز، أن الموارد المائية، ليست حكراً على بلد واحد، بل هي مملوكة لشعوبها ككل، لأن المياه بدون جنسية، وبالتالي لابد من إقامة نظام إقليمي مشترك يتم من خلاله التخطيط وتنفيذ مشروعات لتنمية الموارد المائية، فضلاً عن توظيف التكنولوجيا للحصول على المياه. وهناك إمكانية للتعاون في مجالات النقل والاتصالات والبنية التحتية. ويرى بيرز كذلك أنها حيوية، ليست لتنمية دول المنطقة فقط، بل لأنها تمثل في حد ذاتها مؤشراً على أن دول المنطقة قد اختارت السلام. بل هناك حديث لبيرز عن مثلث الازدهار، يضم الكيان الصهيوني والفلسطينيين والأردن. وهذا المثلث مطالب بعودة قوافل التجارة والثقافات والبضاعة والممرات، بدلاً من أعباء التسلح الخطيرة على اقتصاد الكيان الصهيوني.
وينظر إبراهيم تامير، رئيس جامعة بئر السبع الصهيونية، إلى السلام الشامل، كونه القادر على إزالة الأخطار، ووثيق الصلة بنظام إقليمي للأمن والاقتصاد دون الالتفات للروابط القومية. فقط في إطار دول كمونويلث، يمتلك سوقاً مشتركاً وحدوداً مفتوحة، وسيكون متاحاً الوصول إلى حلٍّ وسط بشأن الحدود الدولية، بين الكيان الصهيوني وجيرانه، فيما يسمى بالشرق الأوسط. وهذه الحدود ستكون ذات طابع إداري وليست خطوط تحصينات.
ويُغْفِل المشروع الصهيوني عن عمد قضايا الصراع الرئيسة، مثل السيادة والأرض المحتلة والاحتكار النووي والمستوطنات والحدود والدولة الفلسطينية. والقدس، كما لا يتعرض لميزان القوى الحالي الذي يميل لصالح الكيان الصهيوني بشدة، وإنما يعتبر ميزان القوى على وضعيته الحالية واستمرار الاحتلال والاحتكار النووي واستمرار الاستيطان يطرح نقاطاً أخرى أقل أهمية بفرضها كأجندة للتفاوض الثنائي ومتعدد الأطراف. مع كل ذلك، لم يحظ الكيان الصهيوني، ولن يحظى بقبول شعبي، مع أنه كسب عدة جولات عسكرية وسياسية في إطار هذا الصراع، وتشعر غالبية الشعب العربي، أن عقد بعض الدول العربية الصلح الرسمي، أو غير الرسمي، معه، هو نتيجة عجزها عن مواجهته، وليس قبولاً بشرعيته، وهذا الكيان الغريب عن المنطقة، لا يزال في نظر الشعب العربي كياناً قام ويقوم على القهر والاغتصاب بدعم غربي، وهذه الجوانب المهمة، لم يتطرق إليها شمعون بيرز، في رسمه للنظام الشرق أوسطي، وهي جوانب مهمة في الصراع العربي الصهيوني.
ويستخدم الكيان الصهيوني انفتاحه على العالم العربي لأغراض تتعلق بأمنه، على المدى الطويل، في المقام الأول، ولكي تكون روابطه مع دوائر الأعمال العربية بديلاً أمنياً عن انسحابه الكلي أو الجزئي من الأراضي العربية المحتلة، لهذا يتحدد التصور الصهيوني للشرق الأوسط القادم على عدة محاور.
آ- ضرورة إنهاء حالة العداء في إطار العلاقات الصهيونية، بكل طرف عربي على حدة، والتي اتسمت برغبة الدول العربية في إزالة الطرف الآخر. ويترتب على ذلك، إنهاء حالة الحرب، وتوقيع اتفاقيات سلام جزئية ومنفردة، ترتكز على التعاون، وإعادة رسم الحدود في المنطقة، بما ينطوي عليه ذلك، من تعديل للحدود الدولية بينه وبين دول الطوق أمام الرسم الجغرافي السياسي للمنطقة.
ب- التركيز على البعد الاتصالي في العلاقات الدولية ووصف عملية التطبيع المزعومة بالاتصالية، وذلك من خلال شبكة من العلاقات والتفاعلات النوعية في الاقتصاد والسياحة، أي هياكل ومؤسسات ومشروعات مشتركة وتيارات من الاتصال السلمي البشري والثقافي.
ج- توسيع نطاق الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة في عملية وضع نهاية للصراع الإقليمي وإقامة ترتيبات شرق أوسطية في المنطقة لنفي الفكرة العربية، وَمَحْوِ المشروع القومي العربي. وهذه الأفكار لا يمكن أن ترى النور وتتحقق، إلا عبر الثقافة، ولهذا فإن النظام الثقافي والقيمي الجديد، سوف يتسم بالتعددية، وهذا يشير إلى أن النظام الشرق أوسطي لن يتصف بوحدة الإطار القيمي، أي الثقافة العربية والعروبة، وإنما يحدده العرض والطلب الثقافيان “أي هيمنة الثقافة الأقوى”، وهي الصهيونية، الطفل المدلل، لما يسمى بالنظام الدولي الجديد.
إن الضرورة تقتضي البحث عن المسميات الحقيقية، فالواقع أن هناك ترتيباً شرق أوسطي، وليس “نظاماً”، لأن كلمة نظام تعني وجود إرادة واضحة في تنظيم الأوضاع، بينما لا تعني الأولى إلا ملاحظة الترتيبات التي سوف تستقر عليها الأوضاع بين القوى الموجودة في الساحة. ومن مصلحة القوة السائدة أن تظهر هذا الترتيب النابع من توازن القوى، على أنه تنظيم يضمن مصالح الجميع. والترتيب قائم على حساب المصالح الغربية، لأنه من وضع الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وقد أطلق عليه اسم “النظام الشرق أوسطي” وهو واحد من الأنظمة الإقليمية التي رسمت السياسة الأمريكية خطوطها الرئيسة في إطار تصورها لما تسميه النظام الدولي الجديد الذي تنفرد بقيادته.
كما يقع ضمن ترتيبات مخطط السياسة الأمريكية للمنطقة العربية، بسبب اعتمادها المتزايد على النفط، كما تكشف عن قيمته الاستراتيجية في الصراع الدولي على الموارد الطبيعية. فقد باتت السمة الطاغية لمرحلة ما بين الحربين العالميتين، هي الصراع على النفط، منذ اتخاذ قيادة البحرية البريطانية، قرارها عام (1910)، باعتماد النفط بديلاً عن الفحم، كوقود للأسطول البريطاني، وابتكرت أساليب جديدة للتشحيم والتزييت، منذ أن ظهرت محركات الديزل والطائرات عام (1930).
وتمكنت الولايات المتحدة، عبر شركاتها النفطية العملاقة، ذات الخبرة العالمية في عالم النفط، من السيطرة على نفط ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط، وأن تصبح بالتالي صاحبة الكلمة الأولى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويرى بعض الخبراء أن السيطرة الأمريكية النفطية التي تمثلت في البداية في شركة آرامكو والكونسورتيوم النفطي في إيران، وهي من مظاهر زعامة الولايات المتحدة للعالم الرأسمالي، كما أسهمت في ترسيخ تلك الزعامة. ويجزم بعض الباحثين الاقتصاديين بأن مشروع مارشال لتعمير أوربا ما كان لينجح لولا السعر المنخفض للنفط، وبقائه طيلة عقدين من الزمن. وعبر عن ذلك أحد رؤساء الجمهورية الفرنسية، كليمنصو، بقوله: “إن البلدان الرأسمالية المتطورة قد ركبت موجة نفط الشرق الأوسط لتعبر إلى المعجزة الاقتصادية في فترة الخمسينيات (1950) والستينيات (1960)”. وبات واضحاً للجميع، كما يقول: “إنه بدون النفط لم يكن ممكناً وجود الاقتصاد الحديث”. كما اعترف أحد وزراء دفاع الولايات المتحدة، كاسبر واينبرغر أمام الكونجرس: “بأن هذه المنطقة، تقف وراء الازدهار الاقتصادي لكل من الغرب واليابان”. أما أحد سفراء الولايات المتحدة السابقين في الجزيرة العربية، (جيمس ايكنز)، فإنه يقول “لقد سيطرت الولايات المتحدة على منابع النفط في الشرق الأوسط بعد أزمة مُصّدّق، وحصلت على 40% من شركة النفط الإيرانية الجديدة، وبفضل النفط العربي الذي تميّزَ بسهولة الإنتاج وانخفاض كلفته، استمتع العالم بمصدر طاقة، سعره زهيد في الفترة (1950-1970). وبالتالي فإن النفط العربي كان حاسماً لتقدم الاقتصاد الغربي إلى حد كبير”. أما روبرت تكر، فإنه يرى بأن “الخليج يشكل المفتاح الذي لا غنى عنه للدفاع عن موقع أمريكا الدولي تماماً كما يشكل المفتاح الذي لا غنى عنه والذي بدونه لا تستطيع قوى معادية للولايات المتحدة أن تطمح جدياً إلى الهيمنة الكونية، وبالمقارنة مع المخاطر الناجمة عن السيطرة على الخليج، ليس للصراع في مناطق أخرى من العالم الثالث إلا أهمية سطحية”.
وتتطور لهجة التصريحات منذ منتصف السبعينيات (1970)، وتصدر سلسلة متشنجة ضد الإمارات والمشيخات النفطية، والتهديد باستخدام القوة ضد تلك البلدان باحتلال منابع النفط، خاصة في الجزيرة العربية، ومشيخة الكويت. وبهذا الصدد يقول البروفيسور “روبرت تكر” وهو من أبرز القائلين أو الداعين باحتلال منابع النفط منذ عهد نيكسون، وحتى ريغان: “إن المنطقة الوحيدة التي تتوفر فيها هذه الشروط، على ما يبدو، هي تلك التي تمتد من الكويت على طول الساحل حتى قطر، وهي في الغالب شريط ساحلي ضيق لا يتعدى (400) ميل طولاً، ويوفر (40%) من مجموع إنتاج الدول المصدرة للنفط الحالية، وفيه أكبر كميات احتياطي في العالم على الإطلاق، أي نحو (50%) من مجموع احتياطي الدول المصدرة للنفط، و40% من مجموع الاحتياط في العالم بأسره، وبما أن هذه المنطقة لا تشمل مراكز سكانية مهمة، وهي خالية من الأشجار، فإن السيطرة عليها لا تشبه تجربة فييتنام لا من قريب ولا من بعيد”.
أما كيسنجر، فقد أكد لمجلة “بزنس ويك” الأمريكية “أن الولايات المتحدة ستقوم بعمل عسكري ضد الدول المنتجة للنفط إذا استخدم النفط لإحداث حالة اختناق للعالم الصناعي، أي إذا استخدم لأهداف سياسية”.
وأكد الرئيس الأمريكي فورد موافقته على هذه التصريحات بقوله: “قد لا يكون الأمر أخلاقياً، لكنني أرى أنه لو رجعت إلى التاريخ البشري لوجدت أن الحروب من أجل الموارد الطبيعية مستمرة منذ أقدم الأزمنة، وتاريخ السنوات الماضية يشير بوضوح إلى هذا الأمر كأحد الأسباب التي من أجلها تحاربت الأمم”.
ومنذ ذلك الوقت، حددت الولايات المتحدة بوضوح، مصالحها الحيوية في هذه المنطقة من العالم: “باستمرار القدرة على تحصيل الواردات النفطية بأسعار معقولة وبكميات كافية، للوفاء باحتياجاتنا المتنامية واحتياجات أصدقائنا وحلفائنا الأوربيين والآسيويين”. وبالتالي، فإن الدول المنتجة مطالبة بأن تراعي مصالح الامبريالية قبل مصالحها، ووصل الأمر إلى درجة تعبئة الرأي العام الغربي بأن النفط وديعة لدى الدول المنتجة، لا يحق لها استخدامه كسلاح في معاركها الاقتصادية أو السياسية، حيث يرى بعضهم: “أن على العرب أن يعوا الحقيقة المرة التي تتمثل في أن مئات الملايين من سكان العالم الذي يحتاجون لنفط البلدان العربية قد يصلون إلى قناعة بأن أفضل طريقة للحصول على هذا النفط، هو أخذه بالقوة، ولن تكون هناك معارضة ذات أهمية لمثل هذا الحل من قبل الرأي العام للدول التي تحبذ هذه الطريقة أو لمشاركة الولايات المتحدة في هذه الدعوة”.
وتضيف الـ “نيويورك تايمز” قائلة: “إن عملية عسكرية لتأمين النفط للدول المستهلكة، لا تشبه أبداً التدخل العسكري الأمريكي المحدود في فييتنام. ولذلك، سيكون هناك إجماع لدى الرأي العام العالمي على مثل هذه الخطوة دونما معارضته. وعند ذلك لن يكون العرب في موقف قوي يحسدون عليه”.
وفي جانب آخر، ساهمت بعض البلدان المنتجة للنفط في تدني أسعاره، بعد أن خضعت للابتزاز الأمريكي، ففي حين طالبت بعض الدول المنتجة ربط أسعار النفط مع التضخم النقدي في العالم وبالتالي زيادة الأسعار مع زيادة هذا التضخم، قامت بعض دول المنطقة، بالإصرار على السعر الأدنى الذي شهدته المنطقة منذ عام (1981)، وضاعفت بعض الدول إنتاجها لدرجة إغراق الأسواق بالنفط الذي زاد عن حاجة البلدان المستهلكة، وقد مكن ذلك الشركات العالمية والدول الغربية من تخزين كميات ضخمة من النفط وزيادة الاحتياطي الاستراتيجي لديها. وعندما حققت هذه الدول أو الدولة هدفها المتمثل في خفض الأسعار إلى أدنى حد، فرضت على بقية المنتجين توزيعاً غير عادل للحصص، يرتكز على حقها في الإنتاج الأكبر، دون الاعتبار لاحتياجات الدول النفطية ذات الكثافة السكانية العالية، أو أية اعتبارات أخرى.
ومنذ عام (1982) تضغط الدولة المعنية أو الدول لتخفيض الأسعار بإغراق الأسواق العالمية بكميات كبيرة من النفط، إما بالخضوع لأوامر الولايات المتحدة، بينما أخذت الدول الغربية تخفض من استيرادها من الدول المصدرة للنفط بالاعتماد على البلدان المنتجة الأخرى من خارج مجموعة الدول المصدرة (أُوبِّك) أو باستخدام النفط الاحتياطي الذي جرى تخزينه.
ولقد أوصلت مثل تلك التصرفات المشبوهة، منظمة الدول المصدرة للنفط إلى أزمات خطيرة متكررة في تاريخها. فقد تدهورت الأسعار بتاريخ 28/7/1986 لتصل إلى (7) دولارات للبرميل الواحد، إلى درجة أن باتت المنظمة على كف عفريت. وكان من نتائج هذه السياسة أن هبطت عائدات المشيخات النفطية إلى درجة مزرية. من جهة أخرى، قامت الحكومة البريطانية بدور تخريبي كبير وذلك بعد الاكتشافات النفطية الكبيرة في بحر الشمال، حيث رفضت على الدوام التنسيق مع الدول المصدرة، بل وأصرت على اتباع أسلوب يهدف إلى تقويض المنظمة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة. إلى درجة أن عبر أحد رجال الأعمال الأمريكيين وهو “هـ.نيوستين” بقوله: “عاد الباعة الصغار إلى مكانهم، وأصبحنا من جديد وزراء النفط”.
ولا تقتصر أهمية الخليج على وجود الثروة النفطية الكبيرة فيه، بل استتبع ذلك، انبثاق أسواق كبيرة للبضائع والمواد الاستهلاكية، كما أثرت العائدات النفطية على الأسواق المالية، وبات من الضروري العمل على إعادة هذه العائدات إلى الغرب بطرق شتى وضمن مخطط متكامل لإحكام السيطرة على الثروة النفطية وعائداتها، وحتى على شيوخها.
وأصبحت الدوائر الغربية، خاصة الأمريكية منها، تراقب بدقة زيادة عائدات النفط أو تناقصها، وبالتالي التخطيط لكيفية استعادة هذه العائدات، باستخدام كافة السبل. فعلى سبيل المثال، سجلت الولايات المتحدة الأمريكية عجزاً مستمراً في الميزان التجاري مع معظم المشيخات النفطية باستثناء الفترة الواقعة بين (1982-1987)، حيث مال الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة، حيث تبيع الأسلحة المنسقة من قبل الجيش الأمريكي، وبشروط أن لا تستخدم ضد الكيان الصهيوني، أو أنها لا تزودها بالأسلحة المتطورة أو الأجهزة التي يمكن أن تؤثر على ميزان القوى مع الكيان الصهيوني، ولا حتى التسبب بأي نوع من إزعاجه. مع ذلك، فقد قفزت الفاتورة النفطية للولايات المتحدة ابتداء من عام (1988) لتصل ذروتها عام (1990)، عندما استوردت ما قيمته (15) مليار دولار من النفط الخام، وتزايد استيرادها من المنطقة ليصل إلى (27.9%) من حجم استيرادها من النفط البالغ (8) مليون برميل يومياً، ليسجل أكبر عجز في ميزانها التجاري مع الإمارات النفطية، ليصل إلى (7.5) مليار دولار، وقد وصلت فاتورة نفطها المستورد لعام (1990) إلى
(58) مليار دولار، وهو متزايد باستمرار.
وتترافق هذه الأوضاع مع ترتيبات تجري على ساحة ما يسمى بالقضية الفلسطينية، أو أزمة الشرق الأوسط. لهذا، يعتبر الحديث عما يسمى بالسوق الشرق أوسطية قديماً، قدم المشروع الصهيوني، فهي حلم لهرتزل الذي تخيّل قيام كومونلويث شرق أوسطي، يكون الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة فيه شأن قيادي فعال ودور متميز على الصعيد الاقتصادي كمركز لجذب الاستثمارات والتحديث التكنولوجي والخبرة التقنية.
ويعد مشروع السوق الشرق أوسطية نسخة من مشروع يعقوب ميرودور وزير المالية الصهيوني الذي عرضه بعد زيارة السادات للقدس عام (1977)، وسمي مشروع مارشال موسع للشرق “الأوسط” وتضمن عدة نقاط:
آ- يشتمل المشروع على صندوق مالي قوامه (30) مليار دولار سنوياً، ولمدة عشر سنوات، أي ما يساوي (300) مليار دولار، ويكون لكل دولة توقع اتفاق تسوية من الشرق الأوسط حق الاستفادة من الصندوق.
ب- سينصرف الصندوق إلى تمويل مشروعات اقتصادية وعلمية وصحية وثقافية، وسيكون لدى دول الشرق الأوسط ما تخسره إذا لم تنضم إلى المشروع.
ج- تقدم الولايات المتحدة ثلث المبلغ المطلوب، وتقدم السوق الأوربية المشتركة أو الاتحاد الأوربي، الثلث الثاني، وتموِّل كندا وأستراليا والدول الاسكندنافية الباقي.
د- إن أوربا تعاني مشكلة خمسة عشر مليون عاطل عن العمل، ولكن هؤلاء يجب إعالتهم بخطة عون اجتماعية، هم بالذات مصدر التحويل. فبدلاً أن تدفع الدول الأوربية معونات البطالة، تدفعها أجور عمل لأن مشروع مارشال لا يزود أوربا بالأموال، بل بطريقة لزيادة إنتاجها وتشغيل العمالة، وسوف يتيح لها تصدير وسائل الإنتاج والبنى الأساسية الصناعية كالآلات الزراعية والسلع الرأسمالية والمعدات العلمية.
هـ- إن الثلاثين مليار دولار سنوياً ولمدة عشر سنوات كفيلة بدفع الاقتصاد العالمي إلى تحقيق نُمُوٍّ يصل ما بين 4% إلى 6% سنوياً.
و- يكون الاشتراك في الصندوق، طبقاً للحاجة وعدد السكان، وبما أن الكيان الصهيوني وسوريا والأردن متساوية في الحاجات، فسوف تحصل كلها منها على مليارين ونصف المليار دولار سنوياً، بشرط تخصيص نصف مليار دولار من هذا المبلغ لتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين داخل حدودها.
وقد استجابت بعض الأوساط الأمريكية لمشروع ميرودور، فتقدم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي فرانك تشيرش، باقتراح إلى لجنة الخارجية والأمن لِتَبنّي مشروع اقتصادي –إنمائي يشمل الكيان الصهيوني، وجاراته العربيات. وجاء في ديباجة الاقتراح! “على رئيس الولايات المتحدة أن يبادر إلى دعوة مصر والكيان الصهيوني إلى مباحثات مع حكومتنا ومع حكومات دول صناعية غربية أخرى تتعلق بإمكانية بلورة مشروع مارشال جديد للشرق الأوسط يؤدي إلى تعاون كامل بين الشعبين “الصهيوني” والمصري، وجميع المقيمين فيما يسمى بالشرق الأوسط المستعدين للسلام، وبموجب هذا الاقتراح، تقوم الولايات المتحدة، ودول صناعية غربية أخرى بمهمة أساسية في بلورة هذا المشروع الذي سيكون شبيهاً بالمشروع الذي بلوره مارشال وأدى إلى إعادة بناء أوربا اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية.
ولعل مشروع مارشال الشرق أوسطي هو أوضح مثال على مشروعات السيطرة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي الوطن العربي تحت شعار السلام العادل. وقال شمعون بيرز: “إن الكيان الصهيوني يواجه خياراً حاداً: أن يكون كياناً صهيونياً الأكبر اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذي يحكمهم أو أن يكون الكيان الأكبر اعتماداً على حجم السوق التي تحت تصرفه، وفي الحالتين لا مفر من هدف إقامة الكيان الصهيوني الأكبر والذي يكرسه إعلان المبادئ. ونجد البند الثاني عشر عنوانه : “الارتباط والتعارف مع مصر والأردن”، وينص على ما يلي: “سيقوم الطرقان بدعوة كل من الأردن ومصر للمشاركة في تشكيل المزيد من ترتيبات التعاون والارتباط بين حكومة الكيان الصهيوني والممثلين الفلسطينيين من جهة، وحكومة الأردن ومصر، من جهة أخرى، لتشجيع التعاون بينهم”. كما ينص البند السادس عشر، تحت عنوان: “التعاون الفلسطيني –الكيان الصهيوني، المتعلق بالبرامج الإقليمية”: “ينظر الطرفان إلى مجموعات عمل المحادثات متعددة الأطراف، كأداة ملائمة لترويج خطة مارشال ببرامج إقليمية وبرامج أخرى، تشتمل على ماهو مشار إليه في الملحق الرابع، والمقصود الإشارة إلى برامج التنمية الاقتصادية في المنطقة التي تتضمن تطوير البنية التحتية، البرامج البشرية الزراعية السياحية… الخ” وهكذا، فإن إعلان المبادئ هو البداية الحقيقية “لنظام” الشرق أوسطية، وهو بمثابة الإعلان عن تأسيس شركة قابضة عملاقة مركزها الكيان الصهيوني بمعاونة الفلسطينيين، وستكون الأردن ومصر الدولتين الأقرب إلى الكيان الجديد، وسيتم فتح أسواق الخليج، عبر الأردن، وستفتح عبر مصر أبواب شمالي أفريقيا كلها بما تحتويه من الأيدي العاملة الرخيصة.
وهكذا، تدخل عملية التبشير بالسوق الشرق أوسطية في حملة أمريكية –صهيونية دَعّمها إعلان المبادئ بعد حرب الخليج الثانية، ولا يخفي أصحاب هذا التيار أن السوق هي التطبيع مع الكيان الصهيوني، والانتماء إليها، ليس مقصوراً على الدول العربية في المنطقة. لهذا تتصدر تركيا قائمة المؤسسين للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، بينما يبدو أن إيران تقع خارج القائمة حالياً، لأنها لم تَتبيّن للآن هذا المفهوم، ويتذرع هذا التيار بأن العرب فشلوا في تحقيق أي نوع من الاندماج الاقتصادي الذي هو شرط من شروط التقدم في عالمنا المعاصر، والمخرج الوحيد من مأزق هذا الفشل، هو التكامل الإقليمي الواسع.
وتشير الفكرة الأساسية للسوق إلى أنه لا منتصرين في الحرب، ولأنه لابد من سياسة بديلة تتمثل بالمعاهدات والاتفاقيات الثنائية، والمتعددة التي تتجاوز حدود الدول، ويعتبر شمعون بيرز، أن قيام هيكل إقليمي جديد فيما يسمى بالشرق الأوسط، يخلق أُطراً جديدة للمنطقة، ويوفر القدرة على النمو الاقتصادي والاجتماعي، ويرى أيضاً، أن التناقض بين تطلعات الكيان الصهيوني للأمن وأمل الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المحتلة، لا يمكن حله من خلال المعادلة الجغرافية، فالكيان الصهيوني بحاجة للعمق الاستراتيجي، والفلسطينيون يطالبون بالأرض نفسها التي تمثل هذا العمق، ويرى الصهاينة أن خريطة بلادهم المدعى بها تبدو غير طبيعية، الأمر الذي يرفضون معه إقامة دولة فلسطينية لأسباب أمنية، حتى لو كانت الدولة المقترحة منزوعة السلاح، وأن الحل المقترح، وهو الحكم الذاتي الذي يبدأ بغزة وأريحا، يهدف إلى تغيير الجو السياسي النفسي المتخم بالذكريات والتهديدات، ولكن حقيقة أن الحل النهائي لا يزال غير متبلور يزيد من حدة الشكوك والمخاوف المتبادلة. وليس ثمة وقاية ضد احتمالات تشكيل الترتيبات الشرق أوسطية الجديدة، بسبب تفكيك النظام الإقليمي العربي إلى وحدات متنافرة متناثرة. ولعل أهم تأكيدات هذه الفرضية، أن الكيان الصهيوني سيرد للعرب أراضيهم المحتلة بصيغ مجحفة للعرب، مثل الحكم الذاتي في غزة وأريحا، مقابل الحصول على التطبيع الاقتصادي معهم.
إن التصدي لهذا المشروع يقتضي منا التأكيد على أن اقتصاديات دول المنطقة، بما فيها الكيان الصهيوني لا تكمل بعضها بعضاً، إلا في إطار ضيق، بل إنها المنافس الرئيس للعديد من الدول العربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في مجال الصادرات الزراعية “خاصة الحمضيات والخضار” للأسواق الغربية. وهناك العديد من المعطيات أكثر واقعية تُلْغي الخيار الشرق أوسطي بصورة الصهيونية، ولَعَلّ أهمها:
أ- لا يوجد فائض صناعي أو زراعي يُعْتَدّ به لدى الدول العربية، يمكن أن يساعد على تأسيس تجارة ذات أهمية مع الكيان الصهيوني تلبي احتياجاته، وربما كان هذا النقص بالتحديد أحد معوقات قيام تكامل اقتصادي عربي.
ب- سيعمل النظام الاقتصادي الشرق أوسطي على إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاديات العربية وفي اقتصاد الكيان الصهيوني. ومن شأن ذلك، أن يخلق توزيعاً جديداً للعمل الإقليمي تختص به الدولة الصهيونية بالصناعات الخفيفة وبإنتاج المواد الأولية التي تميل أسعارها إلى الانخفاض في الأجل الطويل، وسيؤدي هذا الأمر إلى تكريس التخلف في الدول العربية، خاصة في مجال اكتساب المهارات الضرورية لتحقيق أسباب النهوض الاقتصادي، وفي مضمار التكنولوجيا الحديثة، وهو ما يعني هيمنة الكيان الصهيوني، ليصبح المركز الإقليمي الأكثر تقدماً، والذي تتبعه الدول العربية.
ج- سوف يسمح النظام المقترح، بأن يؤدي الكيان الصهيوني دور الوسيط المالي غير النزيه للأموال العربية والعلاقات المالية العربية مع الدول الأخرى، وبالتالي سيعيد استثمار تلك الأموال لخدمة أهدافه، وليس من أجل إعادة تدويرها لصالح الاقتصاد العربي.
د- اختلاف التركيبة الاقتصادية الصهيونية وآلية الاستثمار الصناعي والخدماتي، وما إلى ذلك، من تخطيط وقطاع خاص مسيطر عن تلك المهيمنة على الدول العربية نتيجة الفارق الكمي بين الاقتصاد الصهيوني والاقتصاديات العربية، ويؤدي ذلك إلى تهديد الصناعات الناشئة في الدول العربية. وسيعمد الكيان الصهيوني إلى إغراق الأسواق ليقضي على بعض الصناعات، ولتحقيق مكاسب إضافية في الأسواق العربية، كما سيسمح هذا الكيان الصهيوني بتحقيق قفزة كبيرة في مجال تفعيل تشغيل مؤسساته الاقتصادية القائمة، وخلق مؤسسات جديدة، وتشغيل العاطلين، واستقطاب المزيد من المهاجرين السوفيات، وبناء المزيد من المستوطنات، في حين ستضاعف السوق الشرق أوسطية، العقبات أمام العملية التنموية في الدول العربية، فهي ستقضي عن طريق المنافسة بالجودة والسعر على صناعات قائمة، وستلغي إقامة صناعات جديدة، وستُحوّل الأسواق العربية إلى مجال حيوي للسلع الصهيونية، وسيقوم الكيان الصهيوني بدور الوسيط الناجح لشركات دولية النشاط للمنتجات الأمريكية والأوربية عامة.
وسيكون المستفيدون من الأوضاع الاقتصادية الجديدة، هم مالكو الشركات أو المساهمون الكبار. وفي حين يجري الحديث عن اقتصاد مفتوح الأبواب أمام الكيان الصهيوني، ستكون فائدة الحكم الذاتي محصورة في عدد من الرأسماليين. فأساس التسوية، هو إعطاء الشركات التي ستعمل في المناطق المحتلة بأنواعها، أي الشركات مختلفة رأس المال “الصهيونية –الفلسطيني- الأجنبي” التي تحول أرباحها إلى مناطق مأمونة، غير مناطق الحكم الذاتي، وهذا بالطبع مفيد لرأس المال الصهيوني الذي سيحصل على المزيد من الإعفاءات بالاشتراك مع الشركات دولية النشاط التي ستشكل أداة للغزو الاقتصادي للوطن العربي لتحقيق السوق الشرق أوسطية.
وخلاصة القول، إن إعلان المبادئ يعمل على تكريس الوحدة الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومناطق الحكم الذاتي، مما يجعل اقتصاد المناطق أداة الاختراق للأسواق العربية من قبل الشركات دولية النشاط. ومن الملفت للنظر أن معظم ما يسمى بالشرق الأوسط، بعد إقرار التسوية، قد أشارت إلى أن التوسع في حجم التسويق لمنتجاتها “63% من مجموعة الشركات، هو العامل والحافز الرئيس وراء عملياتها الاستثمارية أو التوزيعية المستقبلية في المنطقة. كذلك أقرت الفروع الصهيونية لشركات دولية أمريكية، بأن النفاذ إلى الأسواق النهائية للمستهلك العربي تمثل (70%) من الدوافع لتوسيع عملياتها المستقبلية في الشرق الأوسط. ويشير العديد من الدراسات الصهيونية، إلى ضرورة التوجه نحو تطوير الصناعات التصديرية ذات التقنيات العالية، وضرورة رفع المقاطعة الاقتصادية المباشرة عن السلع الصهيونية في الدول العربية سوف يفتح أسواقاً جديدة واسعة أمام الصادرات للكيان الصهيوني في الأسواق العربية.
ويقوم الرهان الصهيوني على أن فتح الأسواق أمام الكيان الصهيوني سوف يساعد بدوره على جذب الاستثمارات الأجنبية إليه للاستفادة من موقعه كمحطة لتصدير السلع الصناعية عالية التقنية لأسواق المنطقة العربية بتكاليف نقل منخفضة. ويؤكد ذلك استطلاع قامت به مؤسسة (CRC) لدى عدد من الشركات الدولية العاملة في صناعة المنسوجات والأغذية والمنتجات الكيماوية الخفيفة سوف تتجه باستثماراتها نحو مصر، في حين تتجه الشركات العاملة في مجال الصناعات عالية التقنية التي تبحث عن يد عاملة عالية المهارة وتسهيلاً لتطوير البحوث، ستتجه باستثماراتها نحو الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
وإذا عقدنا مقارنة بين الكيان الصهيوني وكل من سوريا ولبنان والأردن نجد أن الناتج القومي في الكيان الصهيوني، يصل إلى (60) مليار دولار سنوياً، في حين يصل إلى (15) مليار دولار لدى الدول العربية المذكورة، لكل من سوريا و (4) مليار دولار للبنان و (4.3) مليار دولار للأردن، أي أن الناتج القومي في الكيان الصهيوني يساوي ثلاثة أضعاف مثيله في الدول الثلاث المحيطة بفلسطين المحتلة.
إن من شأن هذا المشهد الشاحب للانخراط في مشروع الاندماج الاقتصادي الشرق أوسطي، أن يكرس التبعية الاقتصادية والسياسية وحتى الحضارية، وسوف يتم تأكيد النمو اللامتكافئ لصالح الكيان الصهيوني الذي سيصبح مقراً للمنتجات عالية التقنية ويجذب رؤوس الأموال ومراكز البحوث والتطوير، وسوف يجذب كذلك الكثير من المؤسسات والمصارف وشركات الأموال والأقراض والاستثمار ومكاسب التخطيط الريادية بينما تتركز الصناعات البدائية الوسيطة والخفيفة في البلاد العربية، وهذا يعني أن الدول العربية سوف تتخصص بإنتاج حاجات الكيان الصهيوني الريادية. إذن لابد من إعادة النظر في المشروع الشرق أوسطي، في ضوء هذه المعطيات، وكأنه نظام أو سوق أو منظومة علاقات جديدة تعيد توزيع الصلاحيات والحقوق والمصالح، وصورة تأخذ في الحساب البعد الاقتصادي والحضاري.
في الجانب الآخر، إن ما تسعى الولايات المتحدة إلى بلوغه، من عملية التسوية التي تحاول فرضها على الأنظمة العربية، فلها أسبابها العديدة، أتينا على ذكر بعض منها، وهي عديدة، ولا يتورع المسؤولون الأمريكيون عن الحديث علناً عن خطط الولايات المتحدة في المنطقة العربية بهدف تحقيق مصالحهم، وإن عملية التسوية تؤدي حسب رأي معظم أصحاب القرار الأمريكي إلى الاستقرار وبالتالي من خلال ذلك تنفذ الولايات المتحدة جميع ما يهمها. فمع تعاظم دور النفط وتأثيره على الاقتصاد العالمي، مما تسبب في إقلاق الرأسمالية الأمريكية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عبر نائب مساعد وزير خارجية واشنطن لشؤون ما يسمى بالشرق الأوسط في ختام مؤتمر منظمة معهد الشرق الأوسط، بقوله: “إن الناحية الاقتصادية مع دول ومشيخات مجلس التعاون الخليجي تدعو للقلق، لأن حصة الولايات المتحدة من صادراتها إلى سوق الخليج غير متوازنة، للآن، لذلك يجب رفع فاتورة الأسلحة إلى أعلى لخلق توازن بين فاتورة الواردات والصادرات”. وتتهم بلدان الخليج أن لديها تراكم فائض من الأموال، لهذا، تبدي واشنطن اهتماماً متزايداً بمداخيل هذه البلدان الناتج عن بيع النفط ومشتقاته. لذلك، فقد جرى توقيع اتفاقية بين السعودية والولايات المتحدة عام (1975)، تتعهد الأولى، بمنع منظمة الدول المصدرة للنفط من رفع أسعارها بما لا يزيد عن 5% سنوياً، وشرط أن توظف مداخيلها من النفط في الاقتصاد الأمريكي، بما في ذلك سندات الخزينة الأمريكية.
إن ما يقارب من 25% من المداخيل النقدية الخليجية تعود مرة أخرى على هيئة ودائع واستثمارات متعددة الأشكال، وقد أشارت إحصائية صادرة عن المؤسسة العربية المصرفية لعام (1988) أن صافي الموجودات الأجنبية [الحساب الجاري] لدول مجلس التعاون الخليجي في نهاية عام (1987) قد بلغ (301) مليار دولار، وأن إمارة الكويت، تملك أكبر رصيد من الحساب الجاري وقدره (114.02) مليار دولار، في حين يبلغ رصيد السعودية (101.4) مليار دولار، ثم الإمارات العربية المتحدة (74.8) مليار دولار.
ولقد تكشفت حقائق مذهلة حول الأرصدة المالية لأمراء النفط في الخارج عموماً، والغرب بشكل خاص. ففي دراسة لاتحاد البنوك العربية –الفرنسية بباريس، ذكر الاتحاد أن الأرصدة المالية لهؤلاء تتجاوز الـ(670) مليار دولار، في الوقت الذي وصلت فيه ديون العالم العربي إلى (208) مليار دولار. كما أن هناك سباق محموم بين البلدان الرأسمالية على أسواق إمارات النفط. كما يجري صراع خفي بين الاحتكارات، ومن ورائها الدول للحصول على الحصة الرئيسة من العائدات النفطية. وإذا كانت الولايات المتحدة، لا تزال تبذل الجهد لمجاراة اليابان وبعض البلدان الأوربية، في مجال تصدير الكثير من السلع الاستهلاكية والبضائع، فإنها تفرض عقود صفقات الأسلحة والإنشاءات الكبيرة، سواء من خلال سلاح المهندسين أو شركة بكتل أو غيرها من الشركات. مع ذلك، تبقى المنافسة للحصول على صفقات الأسلحة الضخمة مستمرة. ويقودنا كل ذلك، إلى الاعتقاد أن الغرب قد تمكن من إحكام السيطرة على هذه المنطقة من الوطن العربي في مجالات عديدة، مما أدى إلى تعميق تبعيتها الاقتصادية والمالية والعسكرية، وأشاع فيها أنماطاً من العادات الاستهلاكية المدمرة، التي تدفع باتجاه المزيد من الالتصاق بالغرب، بدلاً من التحرر وبناء مجتمعات متماسكة مستقلة، وقادرة على الاستفادة من ثروتها بشكل صحيح.
في الحقيقة، إن النفط سلعة استراتيجية لا يمكن للغرب والعالم الصناعي وكافة بلدان العالم أن تستغني عنها، طالما أنها لم تجد بديلاً لها، كما أن البلدان المنتجة بحاجة إلى بيعه، لأنه يشكل العمود الفقري لإيراداتها. وبالتالي هناك حاجة لإقامة علاقة سليمة بين المنتجين والمستهلكين، لكن يجب أن تكون علاقة متكافئة تحكمها مصالح الأطراف كلها، على أن يشمل ذلك أيضاً المواد الأولية والمصنعة كلها، بحيث يتم التوصل إلى صيغة مقبولة وعادلة للأسعار، للوصول إلى مستوى استخراج مقبول واستخدام معقول لا يؤدي إلى هدر هذه المادة النافذة. وإذا كان التعاون ضرورياً، فإن الدول الغربية لم تبنِ استراتيجيتها على حق الدول النفطية في الاستفادة من هذه الثروة، والتعامل معها على قدم المساواة، بل تتصرف بمنطق استعماري، يرتكز على النفط مادة تحتاجها عجلة التقدم الغربي، وأن من يسيطر عليه، يصبح قادراً على الإمساك بمصير العالم بأسره. ومن هذا المنطلق تتكامل الاحتكارات الأمريكية مع البلدان المنتجة للنفط، وتهددها بأساليب مختلفة للخضوع لإرادتها ربحاً وخسارة، إذ تعتبرها منطقة مصالح حيوية لها، وقد أعدت الخطط اللازمة للتصرف حسب مقتضيات الحال، إلى أن وصل الأمر إلى احتلال معظم مناطق إنتاج النفط العربي، تحت حجج وذرائع مختلفة خلقتها وطبقتها، حسب استراتيجية مدروسة.
لقد أظهرت الولايات المتحدة اهتمامها بمنطقة الخليج قبل الحرب العالمية الأولى، وتمثل ذلك في البعثات التبشيرية الأمريكية، أما بعد تلك الحرب، فمن خلال الشركات النفطية، ثم شهدت فترة بين الحربين العالميتين صراعاً حاداً بين الدول الغربية على الثروة النفطية، مع تسليم الولايات المتحدة، في تلك الحقبة، بأن هذه المنطقة، منطقة نفوذ أوربي بشكل عام، ونفوذ بريطاني بشكل خاص، غير أن الحرب العالمية الثانية، أفرزت معادلات جديدة، خاصة وأن الولايات المتحدة قد ساهمت فيها بقسط وافر، ونشرت قواتها على جميع الجبهات. وكان من ضمنها منطقة الخليج، حيث تطلّب ضمان توصيل الإمدادات العسكرية إلى الدول الحليفة وصيانة المرافق، تشكيل “قيادة” في الخليج، تكونت من (13) ألف جندي أمريكي.
في الوقت ذاته، أبدت الولايات المتحدة اهتمامها للدفاع عن شركاتها واستثمار وجودها العسكري للحلول محل البريطانيين، في السعودية. فجرى تقديم مساعدة مالية وعسكرية لها عن طريق برنامج الإعارة والتأجير. فوصلت هذه المساعدة إلى (100) مليون دولار في مطلع عام (1947)، إضافة إلى حضور عسكري أمريكي لتدريب الجيش السعودي، تمثل في إرسال أول بعثة عسكرية أمريكية في كانون الأول (1943)، وتَمَّ الاتفاق أيضاً على إنشاء مطار عسكري كبير في الظهران، بالقرب من آبار النفط، ثم تم الشروع بإنشاء قاعدة الظهران الأمريكية عام (1944)، وتم إنجازها عام (1946)، لتصبح من أكبر القواعد العسكرية في المنطقة العربية، وجنوب غرب آسيا، مترجماً بذلك التصريح الشهير للرئيس الأمريكي روزفلت بشهر شباط (1943)، بأن “المملكة أصبحت من الآن وصاعداً ذات ضرورة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية”.
ثم شهد العالم بداية الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والمعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، منذ عام (1948)، وكانت ساحات الصراع الأساسية في أوربا والشرق الأقصى. لذا وضعت الإدارات الأمريكية استراتيجيتها الحربية لمواجهة السوفيات وحلفائهم في هاتين المنطقتين، واعتبرت منطقة الخليج منطقة مقلقة للمصالح الغربية وسورتها بالأحلاف التي شملت إيران والعراق، والباكستان وتركيا، في فترات مختلفة، وارتكزت الاستراتيجية الأمريكية على الثوابت التالية:
1ً- اعتبار المعركة الأساسية ضد الاتحاد السوفياتي بما يمثله من مركز الثقل في المعسكر الاشتراكي على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والعمل على محاصرته والدخول معه في سباق تسلح للتفوق عليه وإنهاكه في هذا السياق في الوقت نفسه.
2ً- وراثة الاستعمار القديم في القارات الثلاث، واعتبار العالم الثالث مسرحاً آخر للصراع ضد المعسكر الاشتراكي، وخوض أشكال من حروب التدخل ضد حركات التحرر الوطني، خاصة إذا كانت تحت قيادات قومية راديكالية أو اشتراكية.
3ً- الوصاية على الدول الرأسمالية الأخرى سواءً في أوروبا أم في آسيا كاليابان أم غيرها من الدول الصناعية، بحيث تسير هذه الدول وفق المخططات الأمريكية العامة التي تؤدي خدمة بالدرجة الأولى للاقتصاد الأمريكي والسياسة الأمريكية الشاملة. وجعلت هذه الاستراتيجية من الولايات المتحدة شرطياً عالمياً. وبرز هذا الدور في الحلقة الأضعف، وهي بلدان العالم الثالث، انطلاقاً من موقعها الاستراتيجي وما تحتويه من المواد الأولية والخام التي تحتاج إليها الصناعة الغربية إضافة إلى أسواقها.
إن هذه الثوابت في الاستراتيجية الأمريكية، هي التي تفسر مسار سياسة الولايات المتحدة، بدءاً من الحرب الكورية، ثم الإعلان الثلاثي للدفاع عن الكيان الصهيوني لعام (1951)، بين واشنطن وباريس ولندن، ثم التدخل اللاحق في إيران عام (1953) والتدخل العسكري في لبنان، وفي عدد من البلدان الأخرى..الخ، وتشير كل هذه التصرفات إلى نهج محدد يعتمد التدخل بأشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية في بلدان العالم الثالث. وتَطَلّب ذلك تشكيل قوات خاصة، تحت أسماء متعددة ولمهمات متنوعة مع إرسال المستشارين والخبراء العسكريين. بالإضافة إلى تدخلات وكالة المخابرات المركزية (CiA). وقد وضعت الإدارة الأمريكية استراتيجية متكاملة لمواجهة نضالات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، تعتمد على سياسة “العصا والجزرة”، خلال عهد الرئيس كندي، في مطلع الستينيات (1960)، حيث العمل على كسب “العقول والقلوب”، أو “سحب الماء من حول السمك الثوري”، وبشكل تسري جنباً إلى جنب مع “قِرَب الإطفاء” لإلحاق الهزائم العسكرية بالقوات الراديكالية والحركات القومية، وكأن سياسية التدخل العسكري تسير جنباً إلى جنب مع الدعوات المزيفة لاحترام حقوق الإنسان. تستخدمها متى شاءت وأنّى شاءت، من أجل الوقوف في وجه الأنظمة التقدمية التي لا تخضع لإرادة واشنطن، وكانت القوة العسكرية، هي الكفيلة –حسب أقوال وزير الدفاع آنذاك روبرت ماكنامارا- “بحماية أنفسنا من التهديد المتنامي لحركات التحرر الوطني”. وارتكزت نظريته على إقامة “فرقة إطفائية” احتياطية محمولة جواً، ذات موقع مركزي، “ومستعدة للتحرك السريع إلى أية منطقة تصبح فيها مصالحنا مهددة”. وفي نهاية الأمر توفير الحماية العسكرية للأنظمة العميلة بإرسال تلك القوات الأمريكية لحماية تلك الأنظمة، كما كانت تلجأ أحياناً للاغتيالات الشخصية، كما عملت مع لومومبا في الكونجو.
وفي خضم هذا الصراع بحجة الدفاع عن المصالح الأمريكية غير المحدودة، والذريعة الجاهزة لاستخدام أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الإنسان من أجل القتل والتدمير، تحقق الولايات المتحدة المكاسب، حتى ضد منافسيها من حلفائها الغربيين، فبقربها من آبار النفط في البحرين، حصلت واشنطن على حق استخدام جزء من القاعدة البريطانية البحرية في الجفير منذ مطلع عام
(1949) لتكون مركزاً لقيادة القوات الأمريكية العاملة في ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط. ثم ضاعفت واشنطن من حضورها العسكري إبان أزمة تأميم النفط الإيراني في مطلع الخمسينيات (1950) والإطاحة بمصدق، ووصلت تدخلاتها ذروتها في الشأن الإيراني الداخلي، عندما تمكن عميل المخابرات المركزية الجنرال شوارتزكوف من ترتيب الانقلاب الذي أطاح بالزعيم الوطني الإيراني، الدكتور محمد مصدق، وإعادة الشاه إلى السلطة عام (1953)، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة القرار الأول سياسياً وعسكرياً، في المملكة السعودية وإيران منذ ذلك الوقت، ثم زادت تدخلاتها في المنطقة كلها، بعد حرب الخليج الثانية، إلى أن أصبحت تفرض على الأنظمة كل ما تريد.
مع ذلك، لم تعط السياسة الأمريكية أهمية عسكرية لمنطقة الخليج خارج التصورات الأطلسية خلال الفترة الممتدة حتى مطلع السبعينيات (1970)، التي تمثلت في الأحلاف، وفي التقليد البريطاني للدفاع عن تلك المنطقة، وكان أول تصريح رسمي بصدد الخطط الأمريكية لمرحلة ما بعد هزيمة فييتنام، إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في جزيرة غوام في المحيط الهادي في تموز (1969) عن عزم الولايات المتحدة لتأخذ على عاتقها اتباع سياسة جديدة ترتكز على “دعم الأنظمة المؤيدة لها، واتخذا دور رئيس في قمع من يعارض تلك الأنظمة، ثم العمل على تحمل جزء من الأعباء تتكفل بها تلك الأنظمة، ثم المشاركة الإقليمية، بحجة الحد من الدور الأمريكي المباشر، وهذا تطَلّب تزويد الدول الحليفة لواشنطن بدروع واقية، بتقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية المطلوبة”. وكانت ترجمة هذه السياسة التي سميت “مبدأ نيكسون” في الخليج العربي –الفارسي، إعطاء إيران الدور العسكري الأساسي للحفاظ على الأمن في المنطقة، أي القيام بالدور الذي كانت تقوم به بريطانيا، وعلى ضوء ذلك تم تسليم الجزر العربية الواقعة على مدخل الخليج والتابعة لإمارتي رأس الخيمة والشارقة طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى” إلى إيران لحماية مضيق هرمز وتلبية لطموحات الشاه التوسعية.
في تلك الفترة، التقت مصالح الشاه مع مصالح الولايات المتحدة، فبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه إيران في منظومة المواجهة الأمريكية، فقد أصبحت أقدر من يوكل إليها دور الشريك الإقليمي لحماية مصالح الغرب في منطقة الخليج بالدفاع عن مضيق هرمز لضمان تدفق النفط ومواجهة حركات التحرر الوطني في المنطقة. ثم اعتمدت واشنطن نظرية الركيزتين في الخليج، إيران والسعودية، لضمان استقرار المنطقة لصالحها.
وسعت جاهدة لتخفيف حدة التوترات بين البلدين وحل مشاكل الجرف القاري والجزر المتنازع عليها. وعبر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، جوزيف سيسكو آنذاك، في تقريره أمام اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، صيف عام (1973) عن مدى الاهتمام الأمريكي بالخليج بقوله: “إنها منطقة نمتلك فيها مصالح سياسية واستراتيجية واقتصادية خطيرة جداً”.
وهكذا، اعتمدت الولايات المتحدة على نظام الشاه في إيران كقوة عسكرية إقليمية، ممَّ أثار مخاوف بعض جيرانها العرب، كما اعتمدت على الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة “كحاملة طائرات لا تغرق”، حسب التعبير الأمريكي، لمواجهة بعض الدول العربية التي تتمرد على السياسة الأمريكية. واعتمدت على السعودية ومنتجات النفط فيها وكقوة مالية ولعب دور المطيع المنفذ لسياسة الولايات المتحدة. ولقد أشار المتعاطفون مع الكيان الصهيوني، خاصة ماكتبه الصحفي جاك أندرسون، المعروف بصلاته الوثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ (8/11/1974): “بأن الاستيلاء العسكري على منابع النفط الليبية لا يلزمه سوى فرقتين من مشاة البحرية. أما الدور الذي يمكن أن يلعبه الكيان الصهيوني في هذا المضمار، فيرى أندرسون نفسه: “بأن دوره، هو الاستيلاء على آبار النفط الكويتية”. وقد تصاعد التهديد بالدور العسكري الصهيوني في عهد مناحيم بيغن، الذي أكد في العديد من أحاديثه مع المسؤولين الأمريكيين بأن قوات الكيان الصهيوني قادرة على القيام بالدور العسكري المطلوب في المنطقة. وعزز آرييل شارون وزير الدفاع الصهيوني الأسبق، موقف رئيسه، بتقديم مخطط متكامل لاحتلال منابع النفط في الجزيرة العربية، حيث كتب في جريدة يديعوت أحرونوت: “لكي ننهي القضية الفلسطينية، ونسقط ورقة النفط، فإن على الجيش الصهيوني أن يتقدم ويحتل الكويت مروراً بالأردن”. إلا أن واشنطن لا تعتمد على حلفائها أو ركائزها للدفاع عن مصالحها الحيوية في اللحظات الحرجة، وتدل التصريحات والدراسات أن الولايات المتحدة قد رسمت مخططات الاستيلاء على نفط المنطقة منذ أن شهر العرب سلاح النفط. وكان من أبرز المنظرين لاستخدام القوة العسكرية، الجنرال ماكس تايلور رئيس هيئات الأركان العامة للجيش الأمريكي في عهد الرئيس كندي، ففي مقالة له بعنوان “شرعية الادعاءات حول الأمن القومي” في مجلة “شؤون خارجية” الصادرة في نيسان (1974). جاء فيها: “بصفتنا القوة القائدة التي تملك الوفرة، يمكننا أن نتوقع أن يكون علينا أن نحارب من أجل قيمنا الوطنية، ضد أولئك الحاسدين المعدمين”. ويضيف: “سنحتاج إلى قوات محمولة مستعدة للردع. وفي بعض الحالات لقمع، تلك النزاعات قبل أن تمتد لتصبح شيئاً آخر”.
إن الرؤيا الاستعمارية التقليدية في الاستيلاء على ثروات العالم القديم خاصة في آسيا وأفريقيا، تتطلب السيطرة على طرق الملاحة والتجارة الدولية، ولم تتغير هذه الرؤيا لدى الإدارة الأمريكية التي أرادت أن تكون صاحبة القرار الأول في العالم، ولديها مطلق الحرية في الاستيلاء على النفط، أو أي مواد أولية أخرى، في أي مكان من العالم، ويرى الجنرال ماكسويل تايلور: “بأن أعباء الولايات المتحدة على نطاق عالمي، كما أن اعتمادها على سبيل لا ينتهي من واردات المواد الخام الآتية معظمها من بلدان العالم الثالث، سيجعلها عرضة للمخاطر، إذا لم تَبْنِ قوة عسكرية قادرة على السيطرة على الطرق البحرية الأساسية من وإلى تلك المناطق”. ويضيف: “يجب تشكيل قوات ردع كفيلة بإلحاق الخسائر لأي من يحاول اعتراض تحقيق أهدافنا. لأن التاريخ يزخر بأمثلة لدولة تعرضت لمصائب أثناء سعيها لتحقيق أهداف سياسية طموحه تَعَدَّتْ الوسائل العسكرية المتوفرة لإسنادها”.
وهكذا، تطورت مجموع المشاريع العسكرية الأمريكية المباشرة وغير المباشرة بمعزل عن التصريحات المزيفة الصادرة عن المسؤولين الأمريكيين “السلمية”. أو حقوق الإنسان. ويتضح بجلاء أن الولايات المتحدة، التي تزداد غروراً وغطرسة مع تنامي قوتها العسكرية، خصوصاً مع نهاية الحرب الباردة “إن انتهت”، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإنها تعتبر اليوم أن ثروات العالم، وتحقيق مصالحها، ملكاً لاحتكاراتها، وعلى شعوب العالم أن تقبل هذا الأمر، ولا تتصرف بثرواتها حسبما تمليه عليها مصالحها الوطنية، بل حسب ما تمليه مصالح الولايات المتحدة. وإذا تمردت هذه الشعوب وشقت عصا الطاعة، فإنها تعتبر أنها تهدد بعملها هذا، مصالح الإمبريالية الأمريكية، وعليها أن تتحمل عواقب مثل ذلك التصرف، بالتدمير والقتل والتجويع.
هذا المنطق، يعني إعطاء حق استخدام الثروات الطبيعية لطرف عالمي وحيد، ويمنع على الأطراف الأخرى صاحبة الثروة من استخدامها لتطوير أضاعها الاقتصادية والتصرف بها. لكن يسود منطق السياسة العدوانية الأمريكية، المتمثلة بسياسة البوارج والصواريخ وحاملات الطائرات، وبالتجويع والتدمير، والقيام بالغزوات العسكرية، واستخدام مجلس الأمن كوسيلة لتحقيق الهيمنة لواشنطن، حسبما تمليه مصالحها.