بين مناهج الدراسات المستقبلية الأكثر رواجا تبرز ثلاثة: الممكن(Possible) والمحتمل(probable) والمفضل(preferable)، والأكثر صعوبة في التعامل معه هو المنهج الثاني نظرا لأن الاول يقوم على افتراض اسقاط الاتجاهات الأعظم(mega-trends) على المستقبل ، والثاني يقوم على افتراض سير حركة الواقع طبقا لتصور استراتيجي تريده الدولة ، فهو يقوم على التفكير الرغبي(wishful thinking)، بينما الثالث يقوم على عدد من الملابسات التي تقضي بتحديد رياضي للمتغيرات الحاكمة باستخدام مصفوفة التأثير المتبادل بين المتغيرات(cross impact matrix) ثم قياس معامل الترابط بين المتغيرات الحاكمة لبناء السيناريوهات الاكثر احتمالا بغض النظر عن طبيعة تلك السيناريوهات ، مع مراعاة المتغيرات غير المتوقعة والتي يطلق عليها الباحثون في الدراسات المستقبلية المتغيرات القليلة الاحتمال العظيمة التأثير(low probability high impact).
بالاستفادة من عشرات الدراسات المتخصصة بمستقبل الوطن العربي للعشرين سنة القادمة “تقريبا”،وتقارير المؤسسات الدولية ، واستنادا لعدد من دراساتي السابقة للمنطقة والجوار العربي، يمكن وضع تصور أولي للمنطقة العربية على النحو التالي:
1- المتغيرات الحاكمة لمستقبل المنطقة العربية: تشمل هذه المتغيرات ما يلي:
أ- تزايد العلاقات العربية الصينية والعربية الروسية واستمرار العلاقات العربية الاوروبية على حساب العلاقات العربية الامريكية
ب- استمرار تراجع مكانة البترول في مصادر الطاقة العالمية وانعكاس ذلك على دور القوى الخليجية في السياسات العربية.
ت- تراجع المكانة الاستراتيجية لاسرائيل في المنظومة الاستراتيجية الدولية لا سيما الغربية منها.
ث- تطور بطيء في مستويات الديمقراطية في الانظمة السياسية العربية
ج- تراجع متسارع لكنه غير خطي(nonlinear ) لدور الحركات الدينية وميلها التدريجي للتصالح مع الاحزاب العلمانية
ح- التطور التكنولوجي والعلمي في العالم وآثاره على المنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العربية.
2- كل متغير من المتغيرات الست السابقة يتفاعل مع المتغيرات الخمسة الأخرى ، فتكون له نتائج سلبية او ايجابية على كل منها، ثم يتم حساب محصلة تفاعل كل متغير سلبا وايجابا لتحديد اتجاهه الأقوى، ثم تاتي المرحلة الاخيرة باسقاط حركة كل متغير على المستقبل استنادا للمحصلة التي وصلنا لها لكل منها.
3- مؤشرات أولية على القياس: وساعطي نماذج للمؤشرات الاولية لكل متغير من المتغيرات الست السابقة (نظرا لضيق المجال):
أ- كان حجم التبادل التجاري العربي الصيني عام 1981 يساوي 10% من حجم التبادل التجاري العربي الامريكي، لكنه الآن يشير ألى ان حجم التبادل التجاري العربي الصيني وصل لقرابة 235 مليار دولار مقابل 158 مليار دولار مع الولايات المتحدة ، أي ان تجارة الولايات المتحدة مع المنطقة تساوي 67% من حجم التجارة الصينية ، وهو تحول جذري عميق سيتبعه التزامات سياسية على المدى البعيد.
ب- ستتجه الصادرات النفطية العربية إلى آسيا عام 2035 بنسبة 90% ، ولن تكون الولايات المتحدة بحاجة لبترول من الخارج بأكثر من مئة الف برميل يوميا(وهو رقم هامشي للغاية)، وهو ما يعني تحول في شبكة العلاقات من حيث ضعف اقتصاديات دول الخليج بسبب تناقص أهمية النفط من حيث درجة الاعتماد عليه ومن حيث تآكل اسعاره، وهو ما سيتحول لنتائج سياسية على دور الخليج العربي طبقا لعلم الاقتصاد السياسي.
ت- منذ المؤتمرات الصهيونية الأربعة الاولى اعتمدت الصهيونية مبدأ ضمان مساندة دولة عظمى ، وتشير الدراسات الصهيونية الاستراتيجية لمشاعر وهواجس قلق من احتمالات التحول في بنية النظم الدولية ، وعليه بدأت اسرائيل في السعي لتعزيز العلاقات مع الصين (بخاصة في ظل استشعار تقليص تدريجي في اهمية الشرق الاوسط للولايات المتحدة وفي ظل تعاظم الصورة السلبية لاسرائيل لدى الرأي العام الاوروبي وبخاصة تنامي دور اليمين الأوروبي)
ث- دلت دراسة سابقة لي (وهي منشورة) ان مستقبل الحركات الدينية العربية يتجه نحو تسلل تدريجي للقيم العلمانية في منظومتها المعرفية لا سيما في البعد السياسي ، كما ان دورها المجتمعي سيتراجع على اساس أن البيئة ستفرز 100 نقطة لغير صالحها مقابل 27 نقطة لصالحها( وهو امر اراه سيمتد بآثاره لإيران مع فارق اساسي ان ايران ستكون قادرة على امتصاص آثار التحول ولو ببعض المعاناة)( يمكن العودة لتفاصيل هذه النقطة في دراستي المنشورة في جامعة القدس المفتوحة).
ج- في ضوء التسارع الرهيب في حجم المعرفة العلمية ، ستنعكس آثار ذلك على كل المنظومات السائدة في العالم وفي المنطقة العربية بخاصة، ، وتشير الدراسات الكمية الخاصة بالتطور العلمي بإنه اذا افترضنا ان حجم المعلومات عام 1995 هو 1(نقطة) فإن حجمها عام 2015 هو 23الف و 784، وكلما كان المجتمع اكثر تطورا علميا (معلومات وبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية) كان أكثر قدرة على التكيف مع تداعيات التطور العلمي، ولما كان المجتمع العربي ضمن أقل ثلاثة اقاليم تطورا علميا في العالم فإن قدرته على التكيف ستكون ضعيفة وهو ما يجعل جوانب الاضطراب تطغى على بنياته العامة من هذا الجانب.
الخلاصة الأولية:
أ- تنامي الالتزامات السياسية الصينية تجاه المنطقة مقابل تراجع هادئ للالتزام الامريكي
ب- ستعود مكانة دول الخليج العربي في السياسات العربية لحجم اقل مما هي عليه الآن
ت- ستكون شبكة العلاقات الإسرائيلية الدولية اضعف مما هي عليه حاليا.
ث- تراجع دور الحركات السياسية الدينية وستتصالح تدريجيا مع الحركات العلمانية لكن ذلك سيكون على حسابها.
ج- التطور العلمي المتسارع سيترك الثقافة العربية في حالة من الارتباك الشديد والحيرة لكنه سيفتح المجال لاتساع دائرة النقد للثقافة السائدة.
هي محاولة أولية للرصد…وتبقى ربما حاضرة دائما..