تباينت المواقف الإفريقية تجاه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بين الصمت الحذر والإدانة، في ظل تصاعد مخاوف الدول الإفريقية من التداعيات المحتملة للصراع في أوكرانيا؛ ففي حين التزمت غالبية الدول الإفريقية الحياد حيال التدخل العسكري الروسي، نظراً إلى العلاقات المتشعِّبة بينها وبين روسيا على المستويات التاريخية والسياسية والاقتصادية والأمنية؛ فقد تشكلت خلال الأيام الماضية ملامح اتجاه رافض للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو الاتجاه الذي عبَّرت عنه بصورة رئيسية دول كينيا وغانا والجابون، التي أدانت في مجلس الأمن الدولي –باعتبارها أعضاء غير دائمين– التصرفات الروسية في أوكرانيا بوصفها انتهاكاً للسلامة الإقليمية لأوكرانيا.
وفي هذا الصدد، حذرت كينيا، في 23 فبراير 2022، من الأزمات الإنسانية وأزمات اللاجئين المحتمل وقوعها بسبب العنف والصراع، كما أعربت غانا، في 21 فبراير 2022، عن دعمها الحدود المُعترَف بها لأوكرانيا، وأعلنت رفضها أي أعمال تنتهك سيادتها واستقلالها، فيما اعتبرت الجابون الاعتداء الروسي هجوماً على المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وأكدت ضرورة احترام القانون الدولي. وأصدر الاتحاد الإفريقي بياناً دعا فيه روسيا إلى احترام القانون الدولي والسلامة الإقليمية، وضرورة التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح باب المفاوضات السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة. كما طالبت جنوب إفريقيا روسيا بسحب قواتها من الأراضي الأوكرانية، بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة والالتزام بتسوية نزاعاتها بالوسائل السلمية وبطريقة لا يتعرض فيها السلم والأمن الدوليان للخطر.
أسباب الرفض
يمكن استعراض أبرز الأسباب التي دفعت بعض الدول الإفريقية إلى إعلان رفضها السلوك الروسي في الأزمة الأوكرانية، على الرغم من العلاقات الوثيقة والمصالح المتعددة التي تجمع بين تلك الدول وروسيا؛ وذلك على النحو التالي:
1– تعدد إشكاليات الحدود الهشة في القارة الإفريقية: تهدف الدول الإفريقية الرافضة للعمل العسكري الروسي ضد أوكرانيا ومحاولات موسكو فصل أقاليم من الأراضي الأوكرانية والاعتراف بها من جانب واحد؛ إلى حماية السلم والأمن الإفريقي، من خلال معارضة فكرة استخدام القوة لتغيير الحدود الأساسية بين الدول، التي خلَّفتها الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة في القارة، لا سيما مع تمسك الدول الإفريقية بالحدود الاستعمارية عقب الاستقلال لتجنُّب الصراع وتحقيق السلام، وهو ما تطالب به الدول الإفريقية موسكو لتحذو حذوها في الأزمة الأوكرانية.
2– رفض سياسات المحاور في الصراعات الدولية: إذ تخشى الدول الإفريقية الرافضة للعدوان الروسي، تأثيرات أي اصطفاف أو انحياز إلى أي من أطراف الأزمة، وما قد يصاحبه من ضغوط دبلوماسية يمكن أن تتعرض لها الدول الإفريقية من جانب القوى الدولية الفاعلة؛ لانحيازها إلى هذا الطرف أو ذاك، إضافة إلى التخوف من انتقادات الولايات المتحدة التي ترتبط بعلاقات ممتدة مع معظم الدول الإفريقية، وهو ما قد يهدد بتحول القارة الإفريقية إلى ساحة صراع محتدمة بين الروس والغرب يتصاعد فيها التنافس وانعكاساته على أمن واستقرار الدول الإفريقية ومصالحها من جهة، والمصالح الدولية في إفريقيا من جهة أخرى.
3– التضرُّر المحتمل للاقتصادات الإفريقية: ففي الوقت الذي قد تستفيد فيه بعض الدول الإفريقية النفطية، مثل نيجيريا وأنجولا، من ارتفاع أسعار النفط –وإن كانت الإيرادات الأكبر سوف تجنيها الشركات المتعددة الجنسيات التي تستحوذ على سوق الطاقة في إفريقيا، وليس الحكومات الإفريقية– فإن هناك تهديدات مباشرة قد تواجه الاقتصادات الإفريقية بسبب احتمالات ارتفاع أسعار الطاقة وما يصاحبها من ارتفاع تكلفة النقل في كل أنحاء القارة؛ ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية نتيجة ارتفاع معدلات التضخم كأحد تداعيات الحرب الدائرة في شرق أوروبا؛ الأمر الذي يؤدي إلى معاناة الأسواق الناشئة.
فقد أشارت مجلة “ذي إيكونوميست” إلى أن اقتصاد جنوب إفريقيا سيعاني على المدى الطويل في حالة استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وخصوصاً أن نقص النفط سيؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الوقود، ومن ثم أسعار السلع الغذائية. كما أن هناك صناعات قد تتأثر من تلك الحرب، مثل صناعة الشاي في كينيا، خاصةً أن روسيا من أكبر خمسة مستهلكين للشاي الكيني، الذي يعد مصدراً مهمّاً للعملات الصعبة للاقتصاد الكيني؛ فقد استحوذت روسيا على منتجات بقيمة 6.2 مليار شلن كيني في الفترة بين يناير 2021 ونوفمبر 2021؛ هذا بجانب ضعف العملات المحلية الإفريقية؛ وذلك نتيجة ارتفاع سعر الدولار في العالم، وهو ما يمثل ضغطاً على العملات المحلية، مثل الراند الجنوب إفريقي، والشلن الكيني؛ الأمر الذي يهدد الاقتصادات الإفريقية.
4– تهديد الأمن الغذائي للدول الإفريقية: فقد عاد القمح والحبوب إلى قلب الجغرافيا السياسية بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية؛ حيث يلعب البلَدان دوراً رئيسيّاً في السوق الزراعية العالمية؛ حيث استوردت الدول الإفريقية منتجات زراعية بقيمة 4 مليارات دولار من روسيا في عام 2020 (بواقع 90% قمحاً، و6% زيوتاً)، ومن أبرز الدول المستوردة منها مصر –ما يقرب من نصف الواردات– والسودان ونيجيريا وتنزانيا والجزائر وكينيا وجنوب إفريقيا، في حين جاءت الصادرات الزراعية لأوكرانيا إلى إفريقيا في العام نفسه بقيمة 2.9 مليار دولار (بواقع 48% قمحاً، 31% ذرةً وزيوتاً وشعيراً وفول صويا).
لذلك فإن التأثير على سلاسل التوريد، من شأنه أن يؤدي إلى تعطل شحنات القمح من روسيا وأوكرانيا، الذي يؤدي بدوره إلى مضاعفة تكلفة أسعار القمح في الدول الإفريقية التي تعتمد بدرجة كبيرة على الواردات من القمح والزيوت؛ فقد زاد سعر طن القمح بنسبة 30% في كينيا من 253 ألف شلن كيني، إلى 330 ألف شلن كيني؛ ما يهدد أمن واستقرار السلم المجتمعي في معظم الدول الإفريقية، باعتبار أن نقص القمح والخبز يمثل قوة دافعة لعدم الاستقرار السياسي، لا سيما مع استمرار تعرض بعض المناطق في إفريقيا لموجات من الجفاف مثل شرق إفريقيا والساحل.
5– القلق من تراجع الاهتمام الدولي بالقضايا الإفريقية: هناك مخاوف إفريقية من أن يؤدي الصراع في أوكرانيا إلى تحول انتباه العالم عن إفريقيا، وهو ما يهدد بتفاقم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في القارة الإفريقية، نتيجة ضعف التعاون بين الدول الإفريقية وشركائها الأوروبيين والولايات المتحدة، وهو ما ينذر بتراجع القضايا الإفريقية إلى الخلف في الأجندات الدولية، كما قد يؤدي استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا إلى تصاعد المواجهة بين روسيا والغرب؛ ما يعني تزايد الإنفاق الدولي على التسليح على حساب قضايا مُلحَّة تعاني منها القارة الإفريقية، مثل معالجة الفقر والأوبئة والتعليم وأزمة المناخ.
6– المخاوف المُتعلِّقة بأمن وسلامة الطلاب الأفارقة: حيث تعد أوكرانيا وجهة دراسية مهمة للطلاب الأفارقة، ومن ثم تخشى الدول التي أعلنت عن رفضها الغزو الروسي لأوكرانيا، على أمن وسلامة الطلاب الأفارقة الذين يدرسون في الجامعات والمعاهد الأوكرانية. وفي هذا الإطار، تقدِّر وزارة التعليم والعلوم الأوكرانية أن دول المغرب (8000 طالب)، ونيجيريا (4000 طالب)، ومصر (3500 طالب)، في قائمة أفضل 10 دول يدرس طلابها في أوكرانيا على مستوى العالم. وتشكل الدول الثلاث السالفة الذكر ما يقرب من 20% من جميع الطلاب الأجانب الذين يدرسون في أوكرانيا، اعتباراً من عام 2020.
تأثيرات محتملة
مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، من المحتمل أن تتأثر الدول الإفريقية بتداعياتها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك على النحو الآتي:
1– تصاعد التنافس الدولي على إفريقيا: ربما ينتقل الصراع بين روسيا والغرب من شرق أوروبا إلى إفريقيا كساحة مواجهة جديدة؛ بهدف تطويق النفوذ الروسي المتصاعد في القارة، وفرض المزيد من العزلة الدولية على موسكو استكمالاً للعقوبات الأوروبية والأمريكية بسبب الحرب في أوكرانيا. وهو ما ينذر بمزيد من العسكرة في القارة الإفريقية، ويهدد الاستقرار الإقليمي هناك.
2– تصاعد نشاط الإرهاب في إفريقيا: فالتورط الروسي في أوكرانيا من شأنه أن يخفض شحنات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا –شكَّلت القارة نحو 18% من جميع الصادرات التسليحية الروسية بين عامي 2016 و2020 وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام– وهو ما قد يؤثر على مكافحة الإرهاب هناك. كما تزداد المخاوف من تراجع أمريكي وأوروبي عن تمويل عمليات مكافحة الإرهاب في القارة؛ بسبب توجيه الاهتمام والإنفاق إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو)؛ لاحتواء روسيا في حالة تصعيد الحرب في أوكرانيا وتطورها؛ الأمر الذي يُعرِّض الدول الإفريقية لمزيد من الهجمات الإرهابية وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في مناطق الصراع، مثل غرب إفريقيا والساحل.
3– تخفيض التجارة والمساعدات الدولية للقارة: يتوقَّع البعض أن التكلفة العالية للحرب الروسية الأوكرانية سيكون لها تأثيراتها السلبية على اقتصادات القوى الدولية، لا سيما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يمكن أن يهدد بتخفيض المساعدات الدولية والاستثمار المباشر في البلدان الإفريقية نتيجة ضعف الاقتصادات الدولية، فيهدد وبالتبعية العديد من الاقتصادات الإفريقية التي لا تزال تعاني من تداعيات جائحة كوفيد–19 خلال العامَيْن الماضيَيْن. كما أن فرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على روسيا من شأنه إضعاف الاقتصاد الروسي الذي ينعكس بدوره على انخفاض الواردات من الخارج؛ ما سيكون له تأثيره السلبي على الدول الإفريقية التي تعتمد على عوائد صادراتها لروسيا.
4– ارتفاع أسعار الغذاء والسلع الأساسية: من المُرجَّح أن يؤدي ارتفاع أسعار الوقود إلى زيادة مضطردة في أسعار الغذاء؛ ما يقلل فرص الحصول على الغذاء في بعض الدول الإفريقية بأسعار زهيدة، وهو ما قد يترتَّب عليه تزايد الاضطرابات والتوترات المجتمعية في إفريقيا، لا سيما أن معظم الدول الإفريقية تعتمد في وارداتها من القمح على صادرات روسيا وأوكرانيا التي توفر نحو 30% من إنتاج القمح العالمي؛ ففي زيمبابوي، وجهت الحكومة خلال شهر فبراير الجاري بزيادة الواردات من القمح لتعزيز الإمدادات المحلية في حالة حدوث اضطراب محتمل في سلاسل التوريد العالمية، وهو ما يدلل على أن الأزمة الأوكرانية يمكن أن يكون لها تأثير على الإنتاج وأسواق العمل والتجارة والنقل، وأن يكون لها آثار خطيرة على الأمن الغذائي والفئات الضعيفة في مناطق مختلفة من العالم مثل إفريقيا.
5– تراجع تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى إفريقيا: وذلك نتيجة تأثر الاقتصادات الإفريقية من الحرب الروسية الأوكرانية تأثراً سلبيّاً أسفر عن تراجع وخسارة البورصات الإفريقية، وهو ما يعزز مخاوف المستثمرين الأجانب من المغامرة بالتوجه نحو الأسواق الإفريقية خلال المرحلة المقبلة.
6– الاعتماد على إمدادات الغاز من إفريقيا: ففي ضوء تزايد احتمالات نقص إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، من المُرجَّح أن تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن بدائل قد تكون القارة الإفريقية واحدة منها؛ وذلك بالرغم من أن قطاع الطاقة لم يكن أحد المحاور الرئيسية على جدول أعمال قمة الاتحاد الأوروبي وإفريقيا التي انعقدت في بروكسل في 17 فبراير الجاري. ومع ذلك، ألمح الاتحاد الأوروبي إلى شراكة متساوية مع إفريقيا بشأن زيادة إمدادات الغاز إلى أوروبا خلال الفترة الماضية؛ حيث أشار الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، إلى إمكانية تغيير المسار عندما كشف أن الاتحاد يتفاوض مع الدول الإفريقية المنتجة للغاز، بما في ذلك الجزائر، حول توسيع إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا.
وقد تُوفر الأزمة الروسية الأوكرانية فرصة ذهبية لمنتجي الغاز في إفريقيا، بما في ذلك نيجيريا ومصر وموزمبيق وتنزانيا وغانا، لتلبية الطلب الأوروبي على الطاقة؛ فقد اتفقت “مارجريت فيستاجر” نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، “وييمي أوسينباجو” نائب الرئيس النيجيري، خلال زيارة للمسؤولة الأوروبية إلى نيجيريا خلال شهر فبراير الماضي، على استكشاف جميع الخيارات لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال من نيجيريا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، قد تعمل بعض الدول، مثل نيجيريا والسنغال وموزمبيق، التي تمتلك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي، على الضغط على أوروبا لمواصلة توفير الدعم المالي لمشروعات الغاز.
وإجمالاً، قد يؤدي استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وما يصاحبها من تصاعد العقوبات الدولية والأمريكية على موسكو؛ إلى إرغام الدول الإفريقية على الاصطفاف لصالح أحد طرفي الصراع، وهو ما قد يُفقدها علاقاتها بالطرف الآخر بما يهدد مصالحها الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن طريقة تفاعل الدول الإفريقية مع الأزمة ستظل محكومة بمجموعة من الحسابات السياسية المُعقَّدة، ناهيك عن طبيعة التأثيرات الممتدة للأزمة على الأوضاع الاقتصادية للدول الإفريقية؛ فاستمرار الحرب يعني –بشكل أو بآخر– ارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية الأساسية نتيجة ارتفاع التضخم.