قبل ما يقرب عقدين من الزمان تحديدا في عام 2007 أمر الرئيس “هو جين تاو” الحزب الشيوعي الصيني بزيادة القوة الناعمة للدولة، ورغم أن الصين قوة ضاربة وتهدد جوارها الجغرافي وغيرهم بالقوة الاقتصادية والعسكرية الضخمة، إلا أن مكونات القوة الصينية كانت بحاجة إلى قوة أكبر وهي القوة الناعمة!
القوة الناعمة تعرف بأنها القوة الفارضة علي الدولة (ب) بالإذعان والانقياد للدولة (أ)، من غير أن تمارس الدولة(أ) عليها أي ضغوطات عسكرية أو قوة صلبة، وهو المصطلح الذي أتي به “جوزيف س ناي” عام 1990 في مقال يحمل اسم (القوة الناعمة).
إن القوة هي المقدرة على التأثير في الآخرين، وان تحصل على النتائج التي تريدها، وثمة طرق ثلاثة لإنجاز هذا: بالإكراه(العصا)، بالمال(الجزرة)، وبالجذب والإقناع. العصا والجزرة صورة من صور القوة الصلبة، أما الجذب والإقناع فتسمي القوة الناعمة.1
ودمج القوتين الناعمة والصلبة يكون القوة الذكية أو التحويلية ومن ثم مقدرة الدولة علي التعامل بهذه القوة المزدوجة مع كل الفواعل والوحدات الدولية.
“نيل فيرجسون” يعرف القوة الناعمة بأنها القدرة على أحداث الأثر في السياسة العالمية عن طريق قوي غير تقليدية، ويعتبر بذلك المعروض الثقافي والتجاري قوى غير تقليدية، إلا أنها تظل قوي محدودة بحسب قبولها والإعجاب بها، أو رفضها ومقاومتها من الطرف الآخر.2
في واقع الأزمة الراهنة أو الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن القوة الفارضة على روسيا بالتورط والانزلاق إلى المستنقع الأوكراني، ربما يكون تدبيرا عمدت اليه الولايات المتحدة والغرب في طريقة مختلفة تماما لما هو مفترض إذا أسقطنا أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 فقد اتفق وقتها الاتحاد السوفيتي وكوبا على أن تكون الصواريخ السوفيتية جاثمة على الأراضي الكوبية، وهي الأزمة التي انتهت بتغليب الحكمة من الطرفين وسحب الصواريخ.
الولايات المتحدة تمتلك وسائل القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة التحويلية، وهي تستخدم كل تلك الأنواع مجتمعة أو متفرقة في علاقاتها مع المجتمع الدولي، فقد استخدمت القوة الصلبة بل والمفرطة في اجتياح الدول، وتستخدم القوة الذكية مع بعض الدول بالتهديد والابتزاز، بأن تدفع الدول أموالا طائلة نظير حمايتها ورد العدوان عنها، والأمثلة واضحة وأكثر من أن تحصى في عالمنا المعاصر.
وفي استراتيجياتها ومناهجها اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية وربما العديد من الفواعل علي زيادة حجم القوة الناعمة، وتفعيل المكون الثقافي والفكري والأيدلوجي في خطوات ثابتة لتدعيم القوة الصلبة، ليس إرساء لقيم الحق والعدالة ونشر السلام والأمن الدوليين كما مفترض ومتوقع، ولكن لزيادة بسطتها وسيادتها وتحقيق أهدافها ومصالحها الآنية وبعيدة المدى.
في غزو واجتياح العراق كمثال من قبل الولايات المتحدة وقوات التحالف، كان الفكر الاستعماري لا يدعو إلي استعمال القوة الناعمة باستخدام الموروث الثقافي والتجاري وحسب، ولكنه كان ينتقد تحكيم “بريمر” لفترة سنة واحدة هي في نظره قصيرة بكل المقاييس، وكان الأحرى والاوجب أن يستمر حاكما لسنوات طويلة يشبع فيها الأمريكيون العراقيين بقصر المدة التي ينتوون البقاء فيها ، بل انه من جهة أخرى وفي نفس الخط الاستعماري كان البعض ينتقد دراسة الطلاب للطب والهندسة والصيدلة، ويرى بدلا منهما (على حوجتهما) دراسة سياسات الاستعمار، وأهمية البقاء في المستعمرات لفترات طويلة!
الفكر الاستعماري الإمبراطوري يعتبر أن ما تحتاجه الولايات المتحدة هو التصرف كإمبراطورية، والتصرف كشرطي قائد وأوحد للمجتمع بما تمتلكه الإمبراطورية من قوة لمنع أي قوى ظلامية من تحدي هذا النظام العالمي الصالح والحميد، هذا هو جوهر الفكر الاستعماري الذي يعتقد بإن الولايات المتحدة بحاجة شديدة إليه في القرن الحادي والعشرين اكثر من أي وقت مضى، لأن المهددات الأمنية على اختلاف أشكالها وأضرابها باتت أسهل وصولا من ذي قبل، فالأوبئة يمكن أن تصل في وقت وجيز لتفتك بالآلاف فتكا شنيعا، التقنية العسكرية يمكن أن تساعد في الوصول للمدن الأمريكية ودكها بصورة مفزعة في وقت قصير، ولن تهزم هذه الإمبراطورية الأمريكية من أي قوي أخرى أو إمبراطوريات أخرى مهما بلغت، إنما ما يهزمها هو فراغ القوة من الداخل، أو غياب إرادة القوة الذاتية للإمبراطورية الأمريكية.
“ريتشارد هاس” مدير تخطيط السياسة الخارجية في إدارة “بوش” يقول :إن الأمريكيين بحاجة لإعادة إدراك دورهم وتغييره من منظور الدولة_الامة التقليدية إلى القوة الإمبراطورية، والصحفي “سيباستيان مالابي” يقول: أن الإمبراطورية الأمريكية الجديدة هي أفضل علاج لحالة الفوضى والتشوش التي سببتها الدول الفاشلة في مختلف أنحاء العالم، أما “جيمس كيرث” يقول: هنالك اليوم إمبراطورية واحدة :الإمبراطورية العالمية للولايات المتحدة، الجنود الأمريكيون هم الورثة الحقيقيون لمسئولي الإدارة المدنية الأسطوريين في الإمبراطورية البريطانية، وليسوا مجرد ضباط عسكريين متفانين ومخلصين. 3
مع هذا يمكن القول أن الإمبريالية هي نوع من أنواع التسلط السياسي أو الاقتصادي، أو الثقافي أو الحضاري الذي تمارسه الدولة على غيرها من الدول الضعيفة في المجتمع الدولي في الغالب الأعم، كما تمارسه على الدول القوية والفواعل القوية، وتمارس في ذلك التسلط كل أنواع القوة الثلاثة: الصلبة والناعمة والذكية، لأن القوة هي الأساس الذي يقوم عليه الاستعمار، من اجل تحصيل المصالح المتمثلة في الاستغلال الاقتصادي لموارد الدولة الطبيعية والبشرية الخاضعة تحت سيطرتها
تحفظ البعض مثل “هانس مورجانثو” على التلازم الذي يكون بين الاستعمار والقوة، فهو يعتقد انه لا يمكن النظر إلى أي سياسة خارجية ترمي إلى زيادة قوة الدولة على أنها أبدا وبالضرورة التعبير عن نزعات إمبريالية، لأن الإمبريالية في حقيقتها الأساسية هي محاولة لهدم الوضع القائم، وتبديل تراكيب القوة القائمة في اطار معادلات جديدة، تكون اقدر على الاستجابة لهذه التطلعات الإمبريالية وإرضائها، أما السياسات التي تبحث عن أي شكل من أشكال المواءمة بين قوة الدولة ومصالحها دون أن تمس على أي نحو جذري جوهر علاقات القوة القائمة، فإنها تعتبر سياسات تحدث في نطاق الوضع القائم، وعليه لا يمكن اعتبارها سياسة إمبريالية4
وفي الحق أن قولنا أن انجرار روسيا إلى المستنقع الأوكراني ربما يكون تدبيرا عمدت اليه الولايات المتحدة والغرب، إنما ينقصه أن نضيف إليه أمرا أخر، فاذا كان ما جرى هو من تدبير الولايات المتحدة والغرب واذا كانت المعادلة في حقيقتها هي استدراج من الولايات المتحدة باعتمادها على مكونات القوة الناعمة والصلبة والتحويلية لإيقاع روسيا في فخ الحرب، فإنه ربما يكون على روسيا التي وقعت في سيناريو الحرب، وهذا ما حدث بالفعل، مجابهة الالة العسكرية الأمريكية وتوابعها، إما حربا كاملة لا يعلم احدا نهايتها أو مآلاتها، وأما أن يعيد الجيش الروسي النظر في خطته ويتحول لخوض حرب قصيرة بشرط أن تحقق روسيا فيها مكاسب كبيرة.
الفرضية الثانية هي أن تعمد روسيا والصين إلى نفس السلاح والقوة التي يحارب بها الطرف الأخر.
الهوامش:
1_جوزيف. س. ناي، ترجمة محمد إبراهيم العبد الله، هل انتهي القرن الأمريكي
2_نيل فرجسون، ترجمة معين محمد الإمام، الصنم صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية
3_ المرجع السابق
4_هانز.جي.مورجنتاو، تعريب خيري حماد، السياسة بين الأمم الصراع من أجل السلطان والسلام