محمد عبدالرحمن عريف
بالعودة لحجم الطلب على المياه في العراق نجدها في ازدياد حيث أن النشاط الزراعي يأخذ القسم الأعظم من المياه كما أن الطلب على المياه يتناسب طردياً مع تزايد عدد السكان إلى جانب التطور الذي يصيب القطاعات الاقتصادية المختفة، من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وإمكانية نمو القطاع الصناعي والخدمي الذي يؤدي إلى إحداث نوع من الضغط على الموارد المائية المتاحة في الوقت الحاضر وإمكانية تعاظمها بصورة مطردة في المستقبل، وبما أن المشاكل المائية بين العراق ودول الجوار ترتبط بشكل كبير بنهر الفرات ولعدم وجود منابع لهذا النهر داخل العراق وتزايد الاحتياجات المائية العراقية والسورية والتركية على هذا النهر بشكل كبير اعتماداً على حجم الاحتياجات المائية للأراضي التي تعتمد على حوض الفرات في إروائها والبالغة (6,827) مليون دونم أي أن احتياجات الأقطار الثلاثة ستبلغ (21,6) مليار متر مكعب، ويتوقع أن ترتفع مجموع الأراضي التي تزرع على حوض الفرات إلى (15) مليون دونم، وعند استعمال هذه الدول مشاريعها بالكامل فإن مجموع احتياجاتها من المياه سيرتفع إلى نحو (49,2) مليار متر مكعب حيث أن ذلك سيؤدي إلى حدوث عجز يقدر بـــ(18,2) مليار متر مكعب في حالة احتساب الوارد المائي له (33) مليار متر مكعب.
في ظل العوامل الإقليمية والدولية وتداخلها مع المصالح المائية الحيوية للدول المشتركة بهذه المياه، أدت إلى الإجحاف الذي لحق بالعراق من جراء المشاريع المائية التركية والسورية والأضرار الناجمة من خلال التحكم في المياه مما يلحق الضرر في المزارع الواقعة على نهر الفرات، كذلك الهدر في كمية المياه المستخدمة في ظل السياسات المائية المتبعة في العراق ودول الجوار الجغرافي. وإن أي نشاط يمكن من خلاله استثمار تلك المياه سوف ينعكس تأثيره سلباً على كميات المياه الواردة للدول المتشاطئة معها، كما حدث في عام 1974 عندما قامت سوريا بقطع المياه عن الفرات الداخل إلى العراق، مما كان له أسوأ الأثر على الفلاحين ومربي الماشية وجميع المدن والقرى الواقعة على نهر الفرات. مما يعرض العراق لأزمات ومواقف صعبة بسبب قلة المياه بحكم موقعه الجغرافي باعتباره دولة المصب.
هنا البدايات تأتي مع درجة الإجهاد المائي في العراق 3.7 من 5 والتي تبلغ وفق مؤشر الإجهاد المائي، لتدرج ضمن قائمة الدول المُصنفة بأن لديها “خطورة عالية” فيما يتعلق بالشح المائي ومخاطره. ويتوقع المؤشر العالمي أنه بحلول عام 2040 ستصبح بلاد الرافدين أرضًا بلا أنهار بعد أن يجف نهرا دجلة والفرات تمامًا. تقف عدة عوامل وراء هذا الوضع المائي الحرج هناك، من أهمها التغيرات المناخية المتمثلة في قلة سقوط الأمطار وجفاف الأنهار، إضافةً إلى عوامل أخرى تؤثر سلبًا على واردت المياه من النهرين نتيجة إقامة دول المنبع للسدود على حساب دولة المصب (العراق). ناهيك بالسياسات المائية “المتقادمة” –التي أصبحت في حاجة ماسة إلى التحديث- والتي تسهم بدورها في تفاقم العجز المائي، ويصل العجز في مياه الشرب في بعض المحافظات مثل كركوك إلى 42%، في حين يبلغ إجمالي العجز 18%.
هي تؤدي التغيرات المناخية قد تلعب دورًا رئيسًا في الشح المائي في العراق، وتؤدي إلى تفاوت كمية المياه الواردة إليه من النهرين بين زيادة مفاجئة قد تتسبب في حدوث فيضانات أو شح يؤدي إلى الجفاف، ناهيك بانخفاض معدل سقوط الأمطار عما كان عليه من قبل، ففي شتاء 2017-2018 انخفض إلى أقل من ثلث المتوسط، وفق دراسة “أزمة المياه الحالية في العراق وتأثيراتها البشرية والبيئية” لنضير الأنصاري، أستاذ هندسة الموارد المائية بجامعة لوليو السويدية. يقول “الأنصاري” -الخبير العراقي في شؤون المياه- لـ”للعلم”: إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق تعرُّضًا للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ، وبالفعل تعاني المنطقة من الجفاف وندرة المياه وزيادة متوسط درجات الحرارة، وانخفاض هطول الأمطار.
أشار إلى أن تحليل سجلات هطول الأمطار ودرجات الحرارة في أجزاء مختلفة من العراق يشير إلى أنه سيكون هناك انخفاض مستمر في هطول الأمطار وزيادة في درجة الحرارة، مما يؤدي إلى انخفاض السعة التخزينية للخزانات والإنتاجية الزراعية، واستنزاف موارد المياه الجوفية بسبب قلة إمدادات المياه.
ازداد معدل السحب للمياه الجوفية إلى نحو 5.2 مليارات متر مكعب، تمثل 8.8% من مصادر المياه العذبة، وسحب مياه جديدة بنحو 1.47 مليار متر مكعب سنويًّا عبر أنظمة المياه الجوفية، وفق تقرير خطة التنمية الوطنية الصادر عن وزارة التخطيط العراقية. وانخفض إسهام القطاع الزراعي في الناتج المحلي من 4.2% عام 2013 إلى 3.1% عام 2016، كما انخفض حجم الخزين المائي من 157 مليار متر مكعب إلى ما يقارب 50 مليار متر مكعب عام 2015، وفق التقرير السابق.
أظهرت سجلات تُظهر بيانات الدول صاحبة أعلى معدلات درجات الحرارة المرتفعة في عام 2010 أن خمس دول من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هي الكويت (52.6 درجة مئوية) والعراق (52.0 درجة مئوية) والسعودية (52.0 درجة مئوية) وقطر (50.4 درجة مئوية) والسودان (49.7 درجة مئوية)، كانت من بين أكبر 19 دولة متضررة، وفق دراسة أخرى للأنصاري بعنوان “إدارة الموارد المائية في العراق.. وجهات نظر وتوقعات”. ويضيف “الأنصاري” أن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى جفاف بعض الروافد المغذية للأنهار، مشيرًا إلى أنه بحلول عام 2025 ستكون معالم الجفاف الشديد واضحةً جدًّا في عموم العراق.
بالمثل حذر تقرير “تأثير تغير المناخ على الدول العربية” الصادر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية، من استمرار تضاؤل الموارد المائية ووصول الوضع الحرج الذي تعيشه عدد من الدول العربية إلى مستويات حادة بحلول عام 2025. وأشار التقرير إلى أن “الهلال الخصيب” الذي يمتد من العراق وسوريا إلى لبنان والأردن وفلسطين -وهو مصطلح قديم يطلق على حوض نهري دجلة والفرات، والجزء الساحلي من بلاد الشام- سيفقد كل صفات الخصوبة، وقد يختفي قبل نهاية القرن الحالي بسبب تدهور إمدادات المياه من الأنهار الرئيسية.
سبق لعالم الآثار الأمريكي جيمس هنري برستد أن أطلق هذه التسمية على هذه المنطقة لكونها منطقةً غنيةً بالمياه وتمتاز تربتها بالخصوبة التي تتيح الزراعة فيها بسهولة ويسر. ووضع التقرير المشار إليه العراق في قائمة الدول الأكثر تضررًا بتأثيرات تغير المناخ، لا سيما فيما يتعلق بشح المياه، وذلك بسبب موقعها الجغرافي كمستخدم نهائي لنهري دجلة والفرات، لكونها دولة مصب. في حين حذرت دراسة “التنمية والتغير المناخي في العراق” من أن التغيرات المناخية ستؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد من المياه العذبة على نحوٍ غير مسبوق يقدر بحوالي 865 مترًا مكعبًا سنويًّا. ويبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه الصالحة للشرب في العراق 397 لترًا في اليوم، بفجوة عن الحصة الواجب توافرها (وهي 450 لترًا في اليوم) تبلغ 53 لترًا في اليوم، وفق تقرير خطة التنمية الوطنية العراقية.
لا يمكن إغفال عناصر أخرى صنعت الأزمة، إذ أسهمت إقامة دول المنابع للسدود على نهري دجلة والفرات في خفض منسوبات المياه الواصلة إلى العراق. وأقامت تركيا مشروع “شرق الأناضول”، وتضمن بناء 22 سدًّا لتلبية متطلبات مشاريعها الإروائية، وبدورها نفذت إيران مشاريع على الأنهار المشتركة مع العراق أدت إلى تحويل مجرى بعض الروافد إلى داخل أراضيها.
يتوقع تقرير خطة التنمية الوطنية (2018- 2022) الصادر عن وزارة التخطيط العراقية أن هذه المشاريع ستؤدي إلى انخفاض إيرادات العراق المائية بمعدل يصل إلى مليار متر مكعب سنويًّا، ما يؤدي إلى خفض الإيرادات عند الحدود من 43.7 مليار متر مكعب عام 2015 إلى 28.5 مليار متر مكعب بحلول عام 2035. كما توقع التقرير ازدياد التركيزات الملحية من 320 جزءًا في المليون إلى 500 جزء في المليون بالنسبة لنهر دجلة، ومن 540 جزءًا في المليون إلى 930 جزءًا في المليون لنهر الفرات.
بالعودة للسدود التي أقامتها تركيا وإيران، نجدها لن تؤثر فقط على كمية المياه الواصلة للعراق، بل أدت أيضًا إلى زيادة نسبة الملوحة فيها وتلوُّثها، وهو ما تسبَّب في انخفاض الإنتاجية الزراعية وتصحُّر الأراضي، وأثَّر كذلك على نمط الحياة، فهناك كثير من السكان هجروا قراهم وبيوتهم بعدما أدت الملوحة إلى نفوق الحيوانات والأسماك وموت أشجار النخيل في بساتينهم، ناهيك بافتقارهم إلى مياه الشرب النظيفة، مثل سكان ناحية السيبة بمحافظة البصرة.
نجد هنا مياه الشرب في أغلب محافظات العراق لم تعد صالحةً للشرب بسبب تلوثها برواسب طينية، مما يضطر الأهالي إلى شراء الماء المعلَّب أو تحمل تكلفة المرض نتيجة شرب المياه الملوَّثة! وهنا نجد ضرورة تدخُّل المجتمع الدولي للوصول إلى اتفاقية مع دول المنبع تضمن حصة مياه عادلة للعراق، قائلًا: “الأنهار العابرة للحدود ليست ملكًا لدول المنبع”.
يبقى أن العراق بحاجة إلى سياسات متطورة، لا مركزية، تعتمد على أحدث ما توصلت إليه الأبحاث العلمية والتكنولوجية في هذا الصدد، وإنعاش للبنية التحتية والسدود والخزانات المتهالكة نتيجةً للحروب العنيفة التي مر بها على مدى الـ30 عامًا الماضية. وحيث تبلغ نسبة الهدر نتيجة شبكات توزيع المياه القديمة 29% في بغداد، وتتراوح في بقية المحافظات بين 20 و40%، إضافةً إلى غياب شبكات الصرف الصحي أو تقادُمها، مما يؤدي إلى تلوُّث المياه، وتبلغ نسبة المستفيدين بمياه الصرف الصحي 28.4%، في حين تتجاوز نسبة الهدر في مياه الري 50%، وفق تقرير خطة التنمية الوطنية.
نعم قامت الحكومة العراقية بإنجاز عدد من المشروعات في محاولة لسد العجز في مياه الشرب بين عامي 2013 و2016، تضمنت إنجاز 5 خزانات أرضية وإنجاز مشروع التوسع الثاني لماء شرق دجلة ومشروع ماء الرصافة، إضافة إلى إنجاز 17 مشروعًا للمياه في بقية المحافظات، وإنشاء 227 محطة إنتاج مياه آبار في المحافظات عام 2015، بطاقة تصميمية بلغت 229 ألف متر مكعب في اليوم، وكذلك إنشاء 409 محطات إنتاج مياه بالطاقة الشمسية في المحافظات عام 2015 بطاقة تصميمية بلغت 16.3 ألف متر مكعب في اليوم، وفق تقرير خطة التنمية الوطنية الصادر عن وزارة التخطيط العراقية.
أدت هذه المشاريع إلى ارتفاع كمية الماء الصالح للشرب لمحافظة بغداد من 3.1 ملايين متر مكعب في اليوم عام 2013 لتصل إلى 3.4 ملايين متر مكعب في اليوم عام 2016، إلا أن هذا لم يمنع وجود عجز مائي بنسبة 18%.
في حين توصي دراسة “التنمية وتغير المناخ في العراق” بمعالجة الآثار السلبية لتغير المناخ واتخاذ إجراءات للتكيف معه لضمان الأمن الغذائي، وتركيز البحث العلمي على استشراف الآثار المستقلبية للتغيرات المناخية وكيفية مواجهتها، والاتجاه إلى الاستثمار الجاد في المياه الجوفية، خاصةً في مناطق الخزين المتجدد التي تتميز بخصوبة أراضيها.
يتفق محمد يوسف -الباحث في مركز بحوث الصحراء المصري- مع أهمية التوجه إلى المياه الجوفية في محاولة لسد العجز المائي في العراق، ويقول لـ”للعلم” إنه من مزايا المياه الجوفية أنها تكون على أعماق بعيدة، بما يحافظ على نقاء المياه، ويوفر بديلًا للمياه السطحية الملوثة. ويضيف أنه يمكن الاعتماد في هذا الصدد على تقنيات الأقمار الصناعية والاستشعار عن بُعد للحصول على دلائل على مناطق وجود مياه جوفية، بما يوفر كثيرًا من النفقات الباهظة التي تتطلبها عمليات التنقيب.
في الأخير يبقى أنه لو توافرت السبل الكفيلة بالسيطرة على نزاعات المياه فإن المحادثات حول المياه يمكن أن تدعم التعاون المشترك لضمان الأمن والاستقرار للدول المتشاطئة، واقتسام المياه حسب الاتفاقيات الدولية بين الدول المستفيدة، بعد الأخذ بنظر الاعتبار حجم الثروة المائية التي تمتلكها كل دولة من هذه الدول مع مساحة الأراضي الزراعية المطلوب إروائها، وحجم المشاريع التنموية الزراعية والصناعية إضافة إلى حجم السكان لكل دولة، وحاجتها الفعلية والمستقبلية من المياه، وتطوير المشاريع المائية بشكل لا يؤثر سلباً على الوارد المائي لدول الجوار الجغرافي والالتزام بالأسس والقوانين الدولية في قسمة وتنظيم المياه ويتطلب من العراق استغلال الأراضي الزراعية على نحو اقتصادي وإدارة جيدة يسهم في تحقيق الأهداف الرئيسية للتنمية الزراعية وتطوير المشاريع الإروائية والسيطرة على المياه من خلال السدود والخزانات وفق أساليب علمية لاستغلال مصادر المياه وخزن المياه في الخزانات في فترات الفائض من الموارد المائية لاستثمار هذه المياه في فترات شحتها، وتشجيع الاستثمار في بناء السدود الصغيرة في الوديان ضمن المناطق الصحراوية لخزن واستغلال مياه الوديان للإنتاج الزراعي واستخدام ونشر تقنيات الري الحديثة (الري بالرش والري بالتنقيط)، وتطبيق الري التكميلي في المناطق الديمية شبه مضمونة الأمطار لضمان حاجة المحاصيل من المياه.
… الأكيد أن العراق بحاجة إلى الاستعانة بهذه الحلول وغيرها من الرؤى التي يطرحها البحث العلمي للخروج من أزمته الراهنة والحفاظ على أمنه المائي.